لم يهنأ منتخب المغرب طويلا بالإنجاز الذى حققه فى مونديال قطر، والذى أسعد به العرب والمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، فما كاد اللاعبون يفرحون بالاستقبال الشعبى الحافل، ويعودون إلى بيوتهم، حتى فوجئوا بأنهم طرف فى معركة مفتعلة، كتلك المعارك التى عانينا منها كثيرا بسبب الاستقطاب الدينى والفكرى، والتى يشعلها التنويريون والحداثيون عندنا بين آن وآخر.
بدأت المعركة بمقال نشره موقع ” آشكاين ” الإليكتروني المغربي بعنوان ” سلفى يخترق منتخب المغرب”، استهدف التشهير باللاعب زكريا أبو خلال مهاجم ” أسود الأطلس”، والمحترف فى فريق ” تولوز” الفرنسى، لا لشيء إلا لأنه أبدى التزاما دينيا بارزا وسط زملائه فى بعئة المونديال.
تضمن مقال ” آشكاين ” عريضة اتهام ضد أبو خلال ” 22 عاما “، تصفه بأته ينتمى إلى التيار السلفى، ويتبنى فكرا متطرفا، وأنه قام باختراق المنتخب المغربى، وعمل على نشر توجهه الدينى بين زملائه اللاعبين، والتأثير عليهم، واستقطابهم إلى مذهبه والتيار الذى يتبعه، وجذبهم إلى تبنى أفكاره، وهو ما تحقق مع اللاعبين عبد الحميد صابيري وإلياس الشاعر.
وجاء فى المقال أن سلوك أبو خلال يحمل صبغة دينية متشددة، خصوصا بعد أن لجأ إلى السجود عقب تسجيله الهدف الثاني ضد بلجيكا، وهو ما يعد ثقافة مشرقية مستوردة، كما أنه كان يؤم زملاءه فى صلاة الجماعة بالملاعب، ويحرص هو وهم على رفع سبابابتهم معا إلى أعلى بعد الفوز، مما يشكل “حركة داعشية ” واضحة الدلالة، يضاف إلى ذلك ظهوره في المدرجات برفقة سيدة منقبة، اتضح فيما بعد أنها زوجته الأوروبية.
وقد أحدث المقال ضجة واسعة، وأعادت نشره وعلقت عليه عدة صحف وقنوات إعلامية أخرى فى المغرب وخارجها، بعضها مؤيد وبعضها رافض ومستنكر، ودخلت قناة ” دى فيلت ” الألمانية على الخط، زاعمة أن لاعبى المنتخب المغربى تبنوا سلوكا ” داعشيا إرهابيا “، حين رفعوا سباباتهم عاليا، بعد فوزهم على البرتغال.
ولم ينتبه موقع ” آشكاين” وقناة ” دى فيلت ” وما تبعهما من الصحف والقنوات إلى السقطة الإعلامية المثيرة للسخرية التى انساقوا إليها، فملايين المسلمين يرفعون سباباتهم عند قراءة التشهد فى صلواتهم، فهل يمكن اتهام المسلمين جميعا بالسلفية والتطرف والداعشية ؟! وإذا رفعت ” داعش الإرهابية ” سباباتها فهل هذا حجة على المسلمين جميعا ؟!
ومما يحمد لاتحاد الكرة المغربى أنه انتفض للدفاع عن أبو خلال، والثناء على لاعبى المنتخب والتزامهم الدينى والأخلاقى، وأصدر بيانا عبر موقعه الرسمى يدافع فيه عن اللاعب، ويدين التشهير به، ويهدد باتخاذ إجراءات قانونية ضد من يتهمونه بالباطل، وقال البيان : ” إن اللاعب الدولى أبو خلال أبان عن سلوك مثالي الى جانب زملائه، من أجل تحقيق نتائج مشرفة للنخبة الوطنية في هذا المحفل العالمي، وكان واحدا من صناع إنجاز كأس العالم فى قطر”.
ومن الطبيعى أن تثير هذه المعركة ردود أفعال غاضبة من فئات الشعب المغربى، وأن تتصدر النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشر وسم ” كلنا أبو خلال ” بالعربية والإنجليزية في حملة شارك فيها سياسيون ومفكرون وأكاديميون إلى جانب الرياضيين ومشجعى كرة القدم، وقال معلقون كثيرون إن ما فعله أبو خلال سلوك يتبعه أي مسلم ملتزم، مشيرين إلى أن هذه ليست تهمة أو جريمة تستوجب التحريض ضد اللاعب أو اتهامه، أو انتقاده والإساءة إليه.
وقال عضو رابطة علماء المغرب العربي، رضوان نافع الرحال، عبر حسابه على فيسبوك : ” إن أبواق الحداثة غاظهم أن يروا بعض مظاهر التدين الذي أظهره لاعبو المنتخب المغربي، فأرادوا شيطنة هذه المظاهر”، وقال الأكاديمي د.عمر الشرقاوي : ” إنه من غير المعقول وصف لاعب بالتطرف أو السلفية فقط لأنه يسجد بعد الانتصار، ويشرب الماء وهو جالس على ركبتيه، ويتلو القرآن”.
والحقيقة أن الأمر كان أكبر من مجرد موقع إلكتروني نشر مادة فيها نزعة كراهية واضحة، وأكبر من لاعب جرى التشهير به والتحريض عليه، وإنما الأمر يتعلق باستراتيجية متصاعدة ضد القيم الدينية التي تجمع المسلمين، حيث يتم شيطنتها، ووضعها دائما فى موضع اتهام، والتشكيك فى كل من يقترب منها، وقد استعلى التيار المناوئ للقيم الإسلامية، وأصبحت لديه حساسية مبالغ فيها إزاء أية إشارة، ولو من بعيد، للالتزام بهذه القيم، أو بجزء منها، ولم يعد متسامحا مع أى مظهر دينى، إلى الدرجة التى صار معها مجرد رفع السبابة دليلا على السلفية والداعشية، والنتيجة التى يريدون الوصول إليها هى تخويف وإرهاب كل من يكشف عن التزامه الدينى، من خلال الربط الشرطى بين الدين والإرهاب.
أليست هذه صورة طبق الأصل من المعارك التى يفتعلها العلمانيون والحداثيون والمستنيرون المزيفون عندنا، ويشنون من خلالها حملات تشهير وتحريض ضد كل مظهر أو رمز دينى، ولم يسلم منهم أحد، حتى شيخ الأزهر الجليل، الدكتور أحمد الطيب، الذى هو المرجع الدينى الأول والأهم، ورمز الاعتدال والوسطية فى مصر والعالم أجمع؟!
بقيت عندى إشارة مهمة هى أن موقع ” آشكاين ” قرر وسط هذه الضجة سحب المقال الذي أثارالأزمة، وقدم اعتذارا رسميا لزكريا أبو خلال، “عما قد يكون لحقه من أذى معنوي بسبب ما قد يكون احتواه المقال من تعبيرات عن غير قصد، أو بسبب التحوير والتحريف المغرض لمضامينه ومقاصده من طرف البعض”، وفق تعبير الموقع ذاته.
والاعتذار سمة حضارية راقية، والرجوع للحق فضيلة، لكننا ـ للأسف ـ لم نر لهما مثيلا فى المعارك الفاجرة التى يفتعلها المزيفون عندنا، الذين يتدثرون بحرية الرأى والتعبير للتشكيك فى نيات الآخرين، ويتعمدون إثارة الضغائن بالهمز والغمز، تلميحا وتصريحا، ضد من لايسير معهم فى طريق الظلمات.