يلعب القضاء دورا مهما في حماية البيئة، سواء كان ذلك على المستوى الوطني أو الدولي، ويبرز ذلك على وجه الخصوص من خلال الصلاحيات التي يتمتع بها القاضي في التعويض عن الأضرار البيئية وجبرها، لاسيما وأن هذه الأضرار تنفرد بخصائص ومميزات لا نجدها في غيرها من الأضرار، حيث أنها أضرار غير مباشرة أي تظهر نتيجة تفاعل العديد من العوامل والأسباب.
بدوره يلعب القضاء الجزائي دور كبيرا في مكافحة الجرائم البيئية، سواء من خلال تحريك النيابة العامة للدعوى العمومية ضد مقترفي الجرائم البيئية أو من خلال تطبيق القاضي الجزائي لأقصى العقوبات التي وضعها المشرع، كعقوبة السجن والحبس والغرامة المالية والتي تصل إلى درجة الإعدام في بعض الجرائم، بالإضافة إلى العقوبات المخصصة للشخص المعنوي كعقوبة التوقيف المؤقت للمنشأة وغلقها. وفي نطاق القضاء الدولي تعتبر المحاكم القضائية الدولية، كمحكمة العدل الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار والمحكمة الجنائية الدولية من بين أهم الهيئات التي ساهمت في إنشاء وتطوير قواعد القانون الدولي البيئي، وذلك من خلال مختلف الأحكام والقرارات القضائية التي فصلت في النزاعات البيئية
إن التطور الذي تشهده البشرية في الميدان التكنولوجي والصناعي ساعد على تسهيل حياة الإنسان في شتى الميادين، ولكنه في الوقت ذاته تسبب في آفات أخطرها التلوث البيئي بمخلفات الصناعة والمواد الكيماوية وغيرها، هذا التلوث لم يتسبب في ضرر للإنسان والكائنات الأخرى فحسب، بل أدى إلى تغيير في مكونات الطبيعة.
ولمواجهة التداعيات الخطيرة للتلوث عملت الدول على سن تشريعات تهدف لحماية البيئة والحد من الأفعال والسلوكيات التي تزيد من مخاطر التلوث، إلا أن القوانين وحدها لا تكفي، فكان لا بد من بناء قضاء دولي يدعم جهود حماية البيئة ويكرس التعاون الدولي الفعلي في هذا المجال، وعلى الرغم من أن الجهات القضائية الدولية قامت بدور ملحوظ في حل بعض النزاعات الدولية، إلا أن الكثير من الأحكام لم تحدث تغييرا كبيرا في وقف امتداد التلوث وتداعياته الخطيرة، الأمر الذي أدى إلى المطالبة باستحداث جهاز قضائي دولي يتمثل في محكمة تعرض أمامها كل القضايا البيئية.
يعد موضوع حماية البيئة من أهم المواضيع التي حظيت باهتمام كبير، سواء على مستوى التشريعات الوطنية أو المواثيق الدولية وحتى على مستوى الأفراد، ذلك لأن الجرائم البيئية لها آثار متعددة لا يستثنى منها أي من مكونات المحيط الطبيعي للإنسان الأمر الذي يعود عليه بالضرر.
ويزداد الاهتمام بموضوع التلوث البيئي والآثار الناتجة عنه بالموازاة مع التطور العلمي والتكنولوجي، وتوسع المنشآت الصناعية، والاستمرار في إفراز الملوثات التي تؤثر بالسلب على الإنسان والحيوان والبيئة الطبيعية بكل عناصرها.
ومن الناحية القانونية، سعت الدول المتحضرة إلى صياغة قوانين تهتم بالجانب الوقائي للبيئة، حيث تعمل العديد من المنظمات والجهات المعنية بحماية البيئة بما فيها التشريعات في مختلف الدول، على التوعية بآليات الوقاية من الأضرار البيئية على اعتبار أن الوقاية خير من العلاج، وذلك بسن قوانين تحدد السلوكيات المحظورة الماسة بالبيئة،
وتحديد العقوبات المناسبة لكل فعل يساهم في إحداث ضرر بيئي. والجرائم البيئية شأنها شأن الأنواع الأخرى للجرائم، يعتبر الجانب الوقائي فيها مهما وأساسيا، لمنع الأفعال التي تهدد صحة وسلامة الإنسان، نظرا لما يحدثه التلوث البيئي من آثار مدمرة على المدى القريب وعلى المدى البعيد أيضا.
الجرائم الماسة بالبيئة البحرية والموارد المائية: يمس هذا النوع من الجرائم بالمسطحات المائية العذبة أو المياه البحرية، وتعرف البيئة البحرية بأنها ” مسطحات الماء المالح المتصلة ببعضها اتصالا حرا طبيعيا وقاعها وباطن تربتها وما تحتويه من كائنات حية حيوانية ونباتية وثروات طبيعية تشكل في مجملها عناصر الحياة البحرية وباعتبارها نظاما بيئيا متكاملا
وتعرف جريمة التلوث البحري بأنها ” إدخال أي مواد أو طاقة بواسطة الإنسان في البيئة البحرية سواء تم ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مما ينتج عنه أثر ضار بالأحياء المائية أو يهدد صحة الإنسان أو يعيق الأنشطة البحرية بما في ذلك صيد الأسماك وإفساد صلاحية الماء للاستعمال وحفظ مزاياه”
حمل القضاء أمانة تحقيق العدل منذ فجر التاريخ ، واستشعرت الجماعة البشرية – منذ وعت – الحاجة الماسة إليه ، سبيلاً إلي تحقيق الأمن والطمأنينة ، ونصفة المظلوم ، وقمع الظالم ، وأداء الحق إلي مستحقيه
فالقاضي هو ظل الله في الأرض ، وهو الأمل بين جنبات المظلومين والغاية المنتهي لكل فار من ظلم مبين . لذا كان العدل ولم يزل حقاً من حقوق الإنسان ، إعمالاً لقول الحق سبحانه وتعالي ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل “.ويقتضي العدل ألا يكون القاضي أداةً صماء لإدارة العدالة ، بل عليه أن يطبق النص القانوني بعد تفسيره وفهم علته ، وأن يؤدي ذلك الدور وهو غير منبت الصلة عن السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه ، وفوق ذلك فهو يرقب التحولات والتغيرات التي تطرأ علي المجتمع من حوله ، وعليه أن يوازن بين التفسيرات المختلفة التي تتلاءم مع التغييرات التي تحدث من حوله
. وأياً كان الخلاف الأكاديمي حول بعض الأفكار أو المفاهيم القانونية من حيث المضمون أو الطبيعة أو الآثار ، فإنه من الواضح أن صورتها النهائية تتحدد في ضوء التطبيق العملي لها كما يمارسه القضاء ، وعلي هذا الأخير يقع العبء الأكبر في اختيار صلابة الحلول النظرية التي يفرضها ومدي فاعليتها في الاندماج في الإطار العملي ، وذلك أياً كانت دعائمها المنطقية أو القدرة الإقناعية للمنادين بها ، وتثبت التجربة غير مرة أن كثيراً من الحلول النظرية تمتد إليها يد القضاء بالتعديل تارة وبالمواءمة تارة أخري .
ويعتبر حق الإنسان في بيئة ملائمة ونظيفة من أهم حقوق الإنسان في الجيل الثالث من قائمة حقوق الإنسان التي تقوم علي التضامن الاجتماعي بين الأفراد وعلي واجب الدولة في حماية هذه الحقوق . ولقد أدي التقدم العلمي في المجال التكنولوجي إلي تعديات علي البيئة ومن ثم اعتداء علي حقوق الإنسان . وقد كانت مصر من أولي الدول التي نادت في المحافل الدولية بضرورة حماية البيئة ، وقد انضمــت إلي برنامج الأمم المتحدة للبيئة منذ إنشائه ، كما تشارك بفاعلية في أنشطة ووكالات وأجهزة الأمم المتحدة الأخرى التي تعمل في مجال البيئة .
ومصر عضو بارز في مجالس وزراء البيئة العرب والأفارقة ودول حوض البحر المتوسط ، كما انضمت إلي العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المرتبطة بحماية الإنسان والبيئة . والقضاء المصري صرح العدالة الشامخ وحصن أمن المجتمع وأمانه ، ومنارة عدله واستقراره ، وقضاة مصر سدنة العدالة وحماتها .
وقد أثبت القضاء المصري الشامخ من خلال ما أصدره من أحكام عظيمة أنه علي مستو عال من الفهم والإدراك والمعرفة لمفهوم البيئة وحقوق المواطنين المتصلة بها ، وأرسي في أحكامه من المبادئ ما يؤكد هذه الحقوق ويرسخها ، ويؤكد الدور المحوري للقضاء في دعم الحريات والحقوق وتحقيق الأمن والأمان والاستقرار في المجتمع .
ولا شك أن فاعلية دور القضاء في حماية البيئة تمثل مقياساً لمدى تقدير القضاء وكفالته لحقوق الإنسان وبوجه خاص الحق فى البيئة والحق فى التنمية . ومن ثم أصبح من واجب القضاء العمل على حمايتهما بحسبانه الحارس الطبيعي للحريات .
ولئن كان القانون الوطني في كل دولة هو الوسيلة التي من خلالها تنفذ الدولة التزاماتها الدولية بحماية البيئة فإن ذلك لا يتأتى إلا من خلال قضاء وطني فعال لحل المنازعات البيئية وحماية البيئة ، وهو ما ورد فى المبدأ العاشر من إعلان ريو دى جانيرو 1992 ، والذي يصلح أساساً لتطوير حماية الحقوق البيئية على المستوى الإقليمي ، ويطبق القاضي الوطني في سبيل حماية البيئة كلاً من التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها الدول فى مجال حماية البيئة ، والتي تأخذ قوة القانون .
ولقد تطور قانون البيئة وظهر كأداة حاسمة فى إدارة البيئة ، وباتت درجة وضوح ذلك مؤكدة عندما أصبح القضاء آلية رئيسية لتأكيد التأثير القانوني لتلك القواعد ، ولعب دوراً بارزاً فى دول العالم أجمع لإعمال التوازن بين الاعتبارات البيئية والاجتماعية ، وقد تأكــد ذلـــك من خلال نتائـــج ندوة القضاة العالمية المنعقدة فى جوهانسبرج 18 ـ 20 أغسطس 2002 ، التي جاءت تقرر علي أن ضعف حالة البيئة العالمية يستوجب على القضاة ، بوصفهم حماة حكم القانون الإقدام بجرأة على تطبيق وإنفاذ القوانين الدولية والوطنية السارية التي من شأنها أن تساعد فى ميدان البيئة والتنمية المستدامة فى تخفيف وطأة الفقر وفى استمرار الحضارة وبقائها وفى تأمين قيام الجيل الحاضر بالاستمتاع بنوعية الحياة وتحسين نوعيتها والعمل على ضمان عدم المساس بالحقوق والمصالح الثابتة للأجيال القادمة.
وسوف نستعرض في هذا البحث الدور الذي يضطلع به القضاء في الحفاظ علي البيئة من خلال فروع ثلاثة ، الأول يتناول دور القضاء الإداري في صيانة البيئة والحفاظ عليها ، والثاني يتضمن دور جهات التحقيق في اتخاذ التدابير الكفيلة بالسيطرة على الكوارث البيئية ، أما الفرع الثالث فينطوي على الدور المأمول للقضاء الجنائي في تفسير وتطوير القوانين البيئية ، وذلك علي النحو التالي :
الفرع الأول
دور القضاء الإداري في صيانة البيئة والحفاظ عليها
يمكن رصد دور القضاء الإداري في الحفاظ علي البيئة بحسبانها من أهم القيم المجتمعية التي برزت علي الساحة الدولية والوطنية في الآونة الأخيرة ، وذلك من خلال أحكامه الصادرة انتصاراً للبيئة من كل افتئات عليها ، ولو كان من جهة الإدارة ، وسوف نورد علي ذلك أمثلة من واقع القضايا التي عرضت أمام القضاء الإداري .
1- حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 8450 لسنة 44 ق :
وتتعلق هذه الدعوى بطلب إلغاء قرار جهاز شئون البيئة ، برفض التصريح بدخول إحدى الشحنات إلى البلاد لاحتوائها على مواد ونفايات ضارة ، بزعم أن بعض شركات قطاع الأعمال قد سمح لها باستيراد مواد مماثلة ، وقد كان للمحكمة الإدارية العليا في هذه الدعوى موقفا واضحا في التأكيد على حق الإنسان في بيئة نظيفة باعتبارها من الحقوق الأساسية ، فقضت برفض الطعن وقالت في أسباب قضائها ” ومن حيث إن حق الإنسان في بيئة نظيفة أضحى من الحقوق الأساسية التي تتسامى في شأنها وعلو قدرها ومكانتها مع الحقوق الطبيعية الأساسية ، ومنها الحق في الحرية والحق في المساواة ، فكان أن حرصت الوثائق الدستورية على أن تتضمن نصوصها أحكاما تؤكد هذه النظرة الأساسية ، فضلا عن أن وثيقة إعلان ستوكهولم الصادر عام 1972 قد أكد أن هذا الحق ضمان أساسي لتوفير الحياة الكريمة للإنسان في وطنه ، ويقابل هذا الحق تقرير واجب على عاتقه بالالتزام بالمحافظة على هذه البيئة ..” ، وأضافت أن ” القانون رقم 4 لسنة 1994 الذي أنشئ بمقتضاه جهاز لحماية وتنمية البيئة وتضمنت أحكامه الوسائل الكفيلة بالحفاظ علي البيئة وحمايتها من الملوثات والنفايات الخطرة ، فحظر استيراد النفايات الخطرة والسماح بدخولها …” وأن ” جهاز شئون البيئة قد رفض هذه الشحنة لما تحويه من تراب الرصاص التي يعد من النفايات الخطرة وفقا لقانون البيئة ” ، وأنه ” ..التزاما باتفاقية بازل التي وافقت مصر عليها بقرار رئيس الجمهورية رقم 385 لسنة 1992 ، وهي الاتفاقية الداخلة في نسيج القانون الوطني ولها قوة أحكامه بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها عملا بحكم المادة 151 من الدستور ، وعلى ذلك فإن القرار الصادر في هذا الخصوص جاء موافقا لأحكام القانون بما لا مطعن عليه ”
2- الدعوى الشهيرة بقضية مقر منظمة الصحة العالمية :
أقيمت الدعوى بمناسبة موافقة محافظ الإسكندرية علي تنفيذ توسعات بمبني مقر المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية علي أرض الشارع وشروع الأجهزة المختصة بالمحافظة في ضـم مساحــة الشــارع إلي مكتــب المنظمــة رغم أن الشارع يعد ضمن الأموال العامة التي لا يجوز التصرف فيها . وقد حكمت المحكمة في الدعوى بوقف تنفيذ قرار المحافظ بالموافقة علي تنفيذ مشروع توسعات مبني المكتب الإقليمي بمنظمة الصحة العالمية علي أرض الشارع .
وذكرت في أسباب حكمها ” أن الشارع محل القرار المطعون فيه من الأموال العامة التي أسبغ الدستور عليها حصانة تحول دون انتهاك حرمتها ، وحظر القانون التصرف فيها إلا بمراعاة المنفعة العامة التي خصص من أجلها أصلاً كطريق من الطرق العامة بالمدينة ”
3-الدعوى الشهيرة بقضية موقف سيارات الأقاليم بسموحة :
وقد أقام بعض سكان منطقة سموحة بالإسكندرية دعويين بطلب وقف تنفيذ قرار محافظ الإسكندرية بتحويل المنطقتين ( ك & هـ ) المخصصتين مكاناً لانتظار السيارات لقاطني الوحدات السكنية الراقية وحديقة عامة إلي موقف سيارات الأقاليم خارج المدينة ، وفي الموضوع بإلغاء هذا القرار ، وقالوا في دعواهم ” أن المحافظة قد أعدت تخطيط عام 1984 وروعي فيه أن يكون ثلثا المساحة شوارع وميادين خضراء ، وخصصت القطعة (–) بهذا التخطيط والتقسيم مكاناً لانتظار سيارات قاطني الوحدات السكنية ، والقطعة (–) حديقة عامة ومنتزهاً لأطفال المدينة ، وبين القطعتين شارع مستجد بعرض 15 متراً ، وأن المحافظ قد قرر تحويل القطعتين المشار إليهما إلي موقف سيارات خارج المدينة وما قد يصاحب ذلك من تلوث وتعريض السكينة العامة والأمن العام في هذه المنطقة للخطر ، وهي المنطقة التي تجاورها المناطق الأثرية الخضراء وما يترتب علي القرار من ضرر بالغ للسكان ” وقد قضت المحكمة بقبول الدعويين شكلاً ، وفي الموضوع بوقف تنفيذ قرار المحافظ بنقل موقف السيارات ، وأسست قضاءها علي أن ” الثابت أن المنطقة قد قسمت كمنطقة سكنية متميزة وفقاً للإجراءات المقررة قانوناً ، واعتمد هذا التخطيط قانوناً كما اعتمد من محافظ الإسكندرية عام 1982 وأن القرار المطعون فيه وإن كان يدخل في نطاق السلطة التقديرية لمحافظ الإسكندرية لتحقيق مصلحة عامة من نقل الموقف إلي موقع يتوسط المدينة إلا أن هذه المصلحة لا ترقي إلي مستوي تلك المصلحة التي سبق من أجلها تخصيص هذا الموقع إلي حديقة عامة ومكان انتظار للسيارات بحسبانها منطقة هادئة ومتميزة ، حفاظاً علي صحة المواطنين وحماية البيئة المحيطة بهم من التلوث.
٤- الدعوى الشهيرة بقضية حدائق الشلالات بالإسكندرية :
وتتمثل في الدعوى المقامة ضد محافظ الإسكندرية ، ووزير الثقافة بصفته رئيساً للمجلس الأعلى للآثار ، ورئيس حي وسط الإسكندرية ، وآخرين بطلب الحكم بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرار الصادر من محافظ الإسكندرية بالترخيص لأحدهم بإدارة واستغلال منطقة حدائق الشلالات وما يترتب علي ذلك من آثـــار ، وفي الموضوع بإلغاء هذا القرار .
وقد قضت المحكمة بقبول الدعوى شكلاً وفي الموضوع بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وقالت في أسباب حكمها ” بتوافر شرط المصلحة للمدعين وأن مفاد دعواهم المحافظة علي الأوضاع الجمالية والتاريخية لحديقة الشلالات . وأن المادة الأولي من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2603 لسنة 1996 قد حظرت علي وزارات الحكومة ومصالحها وأجهزتها ووحدات الإدارة المحلية والهيئات والمؤسسات العامة …إنشاء مبان أو إقامة أعمال في الأراضي الزراعية والحدائق والبساتين وسائر المساحات الخضراء المملوكة أو المخصصة لها أو التي في حيازتها بأي صفة كانت الواقعة داخل كردونات المدن والقرى المعتمدة .كما حظرت توسيع أو تعلية أية مبان أو أعمال قائمة بالفعل علي الأراضي والمساحات المشار إليهــا . ولا يجــــوز للجهة الإدارية المختصة بشئون التنظيم إصدار أي ترخيص بشيء مما ذكـــــــر
5- الدعوى الشهيرة بقضية أنديــة القوات المسلحة والشرطة والمعلمين بشاطئ رشــــدي ومصطفي كامل
أقامت جمعية من جمعيات البيئة دعوى بطلب القضاء بوقف تنفيذ القرارات الصادرة من الجهات الإدارية بالتصريح بإقامة أندية للشرطة والمعلمين والقوات المسلحة داخل حرم البحر بالمنطقة الواقعة بشاطئ رشدي ومصطفي كامل ، وقالت في دعواها أن شاطئ البحر من الأموال العامة التي تخرج عن التعامل فلا يجوز تمكين الأفراد من تملكها والاستئثار بها علي خلاف أحكام الدستور والقانــــون ، وحرمان باقي فئات الشعب من التمتع بهذا المرفق الحيوي الذي أنفقت عليه الدولة مبالغ طائلة في سبيل تنمية السياحة الداخلية وزيادة مساحة الرؤية الجمالية لشاطئ البحر دون عوائق مرتفعة تحرم الجمهور من الاستمتاع بالشواطئ ،وقد اختصم في الدعوى رئيس مجلس الوزراء ورئيس جهاز شئون البيئة ورئيس حي شرق الإسكندرية ورئيس الهيئة المصرية لحماية الشواطئ بصفاتهم.
وقد قضت المحكمة بوقف تنفيذ القرارات المطعون فيها فيما تتضمنه من إنشاء نوادي داخل منطقة حرم البحر ، وقد أقامت قضاءها علي أن الدعوى قد رفعت من جمعية بيئية في إطار الأهداف العامة التي تتبناها الجمعية وما حددته المادة 33 من الدستور من واجب حماية المال العام علي كل مواطن ، ولذلك فإن الدعوى قد أقيمت ممن له صفة ومصلحة في رفعها …، وأن البين أن القرارات الإدارية المطعون فيها قد خالفت المادة 74 من قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 التي تنص علي أن” يحظر إجراء أي عمل يكون من شأنه المســاس بخــط المســار الطبيعــي للشاطئ أو تعديله دخولاً في مياه البحر أو انحساراً عنه إلا بعد موافقة الجهة الإدارية المختصة بالتنسيق مع جهاز شئون البيئة ، …….فضلاً عن خلو الأوراق مما يفيد حصول الجهة الإدارية علي ترخيص من جهاز شئون البيئة عن التقويم البيئي للمنشآت ومدي تأثيرها علي سلامة البيئة البحرية وخواص المياه التي تطل عليها
الخلاصة :
ونخلص مما سبق أنه قد أمكن رصد دور حضاري للقضاء الإداري في مجال الحفاظ على البيئة وسلامتها في الأحكام الصادرة منه صيانة للبيئة من أي افتئات عليها ولو كان من جهة الإدارة وإرسائه للمبادئ الآتية :
1- أن حق الإنسان في بيئة نظيفة أضحى من الحقوق الأساسية التي تتسامى في شأنها وعلو قدرها ومكانتها مع الحقوق الطبيعية الأساسية ، ومنها الحق في الحرية والحق في المساواة . 2- الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي وافقت مصر عليها ، والتي صارت جزءا في نسيج القانون الوطني ، ولها قوة أحكامه بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها عملا بحكم المادة 151 من الدستور .
3- أن الشارع الذي يعد جزءاً من التخطيط العمراني المتعلق بالشكل الجمالي للمدينة وجزاء هاما من البيئة يعد من الأموال العامة التي أسبغ الدستور عليها حصانة تحول دون انتهاك حرمتها ، وحظر القانون التصرف فيها إلا بمراعاة المنفعة العامة .
4- أن تصرف الإدارة وإن كان يدخل في نطاق السلطة التقديرية للجهة لتحقيق مصلحة عامة من نقل الموقف إلي موقع يتوسط المدينة إلا أن هذه المصلحة لا ترقي إلي مستوي تلك المصلحة التي سبق من أجلها تخصيص هذا الموقع إلي حديقة عامة ومكان انتظار للسيارات بحسبانها منطقة هادئة ومتميزة ، حفاظاً علي صحة المواطنين وحماية البيئة المحيطة بهم من التلوث .
5- توافر شرط المصلحة للمدعين ، وإن كانوا من المواطنين أو من الجمعيات البيئية ، وذلك وإن كان مفاد دعواهم مجرد المحافظة علي الأوضاع الجمالية والتاريخية .
الفرع الثاني
دور جهات التحقيق القضائية في اتخاذ التدابير الكفيلة بالسيطرة علي الكوارث البيئية
تعرضت مصر خلال السنوات الأخيرة لحوادث بيئية أدت إلي تدمير أجزاء من بعض شعابها المرجانية وتلويث شواطئها وسواحلها ، و يمكن رصد دور لجهات التحقيق القضائية من خلال القرارات التي تنطوي على تدابير تحفظية في حال وقوع كارثة بيئية ، ونورد أمثلة علي ذلك بما يأتي :
1- حادث السفينة لاناي الهولندية في سبتمبر 1987 ،
تولت النيابة العامة التحقيق ، حيث أصدرت أوامرها إلي جهاز شئون البيئة بالتنسيق مع هيئـــة قناة الســويس ، ووزارة النقل البحري وشركات البترول في المنطقة بمكافحة 500 طن زيت وقود ثقيل ، وتنظيف شواطئ منطقة شرم الشيخ ، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضد السفينة ، ثم التنازل عن الدعوى ، بعد إعلان حكومة هولندا التنازل عن ديون عام 1987-1988 ، ودفع مبلغ 750 ألف دولار أمريكي مقابل تكاليف أعمال المكافحة وتنظيف الشواطئ ، ولولا التدخل السريع للجهات القضائية القائمة علي التحقيق لما أمكن تحقيق هذه النتائج
2- حادث سفينة نايوتا التي كانت تحمل العلم البنمي في أكتوبر 1989 ،
والتي قامت بإلقاء كمية من زيت البترول أمام منطقة رأس نصراني بشرم الشيخ ، وأمرت النيابة العامة بالقبض فوراً علي ربانها الإسرائيلي ومنعه من مغادرة مصر ، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ، ثم أفرج عن ربانها وسمح للسفينة بالمغادرة مقابل خطاب ضمان بمبلغ واحد ونصف مليون دولار.
3- حادث السفينة الليبيرية لوبرهورن في ديسمبر 1989
والتي جنحت أمام مدخل قناة السويس وتسرب منها حوالي 2000 طن زيت بترول وأصدرت النيابة العامة أوامرها إلي هيئة قناة السويس بأعمال المكافحة واتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد السفينة ومنعها من مغادرة البلاد مع مطالبة ملاك السفينة بتعويض قدره ثلاثين مليون دولار عن الأضرار التي لحقت بالبيئة البحرية ، وتم اقتراح تسويته بالطرق الودية قبل العرض علي القضاء ، وتم دفع مبلغ واحد وربع مليون دولار.
٤- حادث السفينة الفيلبينية (باناي سامبا كوتيا ) في ديسمبر 1989
والتي اصطدمت برصيف بترولي تابع لشركة بترول خليج السويس ، ونتج عن ذلك تدمير كامل للرصيف البترولي بالإضافة إلي تسرب نحو 10 آلاف برميل ، وقامت هيئة قضايا الدولة وجهاز شئون البيئة باتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد السفينة ، وأمكن الحصول علي تعويض قدره إثنين ونصف مليون دولار قيمة الأضرار التي لحقت بالبيئة البحرية.
تلك كانت أمثلة لبعض القضايا التي كان للجهات القضائية دور بارز فيها انطوي علي اتخاذ إجراءات سريعة من شأنها سرعة الاستعانة بجهاز شئون البيئة لتطهير البيئة البحرية مما قد شابها من تلوث ، والتحفظ علي مرتكبي الجرائم وأدوات ارتكابهم لها مما أدي إلي قيام دولهم بدفع تعويضات نفاذا لمبدأ ” الملوث يدفع “لم يكن من السهل الحصول عليها إلا من خلال إجراءات عديدة قد لا تفضي في النهاية إلي نتائج .
إن التدابير التي اتخذتها الجهات القضائية في الأمثلة السابقة هي خير دليل علي وجوب تفعيل دور الهيئات القضائية في حماية البيئة على المستوى الوطني ، ولا يمكن أن يكون ذلك ممكنا إلا من خلال دراية تامة بقضايا البيئة والتدريب على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ عليها والرغبة في العمل على تطبيقها في القضايا البيئية ذات الطبيعة الخاصة في عناصرها وآثارها على الإنسان . القضاء المقارن القضاء الفرنسي :
وقد ذهب القضاء الفرنسي إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر واقعة إلقاء أسماك ملوثة أو مصابة بتسمم أو تحمل أمراضا معدية من الممكن أن تنتقل إلى الأسماك الأخرى فى المجرى المائى يكفى لإقامة الجريمة المنصوص عليها فى المادة 434 من القانون الزراعى الفرنسى.
القضاء السويسري :
كما تبنى القضاء السويسرى أيضا التفسير الواسع للمواد الملوثة موضوع السلوك الإجرامى فى جرائم تلويث البيئة ، وبناء على هذا الاتجاه عمدت المحكمة الاتحادية السويسرية فى حكم صادر لها فى 15/12/1975 إلى تطبيق نص المادة (37) من قانون حماية المياه ، الذى يعاقب على واقعة ترك أو إيداع شئ بطريقة غير مشروعة خارج المياه ، أو تركه يتسرب إلى باطن الأرض ، أو مادة من شأنها تلويث المياه ، وذلك على واقعة إلقاء خزانة حديدية فى مجرى مائى ، وذكرت المحكمة فى حكمها أن يكفى أن الشئ الملقى فى الماء يكون من شأنه إحداث التلوث ، وعلى الرغم من إقرار المحكمة بأن الخزانة الحديدية وحدها لا تكفى لتلويث المياه ما لم تكن قابلة للصدأ إلا أنها ترى أنه نظرا لحالات التلويث الأخرى الموجودة فى هذا المجرى المائى فإن من شأن ترك هذه الخزانة الحديدية زيادة مخاطر التلوث بما يكفى على عقاب من ألقاها فى المجرى المائى.
القضاء الألماني :
وتنص المادة 325 من قانون العقوبات الألمانى على تجريم كل فعل يتسبب فى تغيير التكوين الطبيعى للهواء بحيث يتعرض للتهديد لصحة الإنسان أو الحيوان أو النبات ، وتطبيقا لذلك قضت المحكمة العليا الألمانية فى 13/3/1975 بتأييد حكم الإدانة الصادر ضد أصحاب مصنع لإنتاج سدادات القارورات يستخدم فى طريقة إعدادها مادة كيمائية كانت تنبعث مع دخان المصنع وتسبب لساكنى المنطقة المجاورة بعض الأذى والمشاكل الصحية
كما قضت أيضاً ، فى تطبيق المادة 324 من قانون العقوبات الألمانى التى تعاقب كل من يلوث الخصائص العضوية أو الكيمائية للماء المعد للاستهلاك ، بإدانة بعض رجال الصناعة الذين ضخوا مياه الحقول الجوفية التى تسربت من حفريات البناء فى نهر مجاور ، بحيث أدت إلى تغيير لون مياه النهر، ورفضت المملكة العليا حجة الدفاع بأن الأمر يتعلق عملياً بمياه مجاورة مشابهة لها تقريباً مؤكدة أن الرمال الناشئة عن حفريات البناء هى التى تسربت مع المياه الجوفية وهى التى أفسدت المياه فى النهر ، وتتحقق بذلك أركان الجريمة المنصوص عليها فى المادة 324 من قانون العقوبات الألمانى.
الدور المأمول للقضاء الوطني
ومما سبق يتضح أن الدور الذي يمكن أن تضطلع به الاجتهادات القضائية فى جلاء مضمون المصطلحات القانونية وتحديد أبعادها وعناصرها ، وقد رأينا أمثلة للمدى الذى بلغه القضاء المقارن ، سواء فى فرنسا أو سويسرا أو ألمانيا ، فى التصدى لتفسير وتطوير القواعد المسئولة عن حماية البيئة ، مما يكشف عن حرص ذلك القضاء على توفير أقصى قدر من الحماية للبيئة ضد أفعال التلويث ، ومرد ذلك – في رأينا – إلى قدم تعاطى القضاء المقارن لقضايا البيئة ، مما جعله قضاء خلاقاً فى مجال تفسير القانون البيئى وتطويره فى المجال الجنائى .أما القاضى الوطنى المصرى فلا يزال – للأسف – بعيداً عن معالجة تلك القضايا الحيوية ، فلم يدل القضاء المصرى بعد بدلوه فى هذا الشأن .
ونعتقد أنه فى مجال إثراء الاجتهاد القضائي الجنائي الوطني في قضايا البيئة ، في سبيل التوصل إلى قضاء واع بالقضايا البيئية ملم بالمستجدات الدولية فى هذا الصدد ، أن علينا عملاً شاقاً ينبغي أن نقوم به وطريقاً طويلاً ينبغي أن نقطعه ، فإذا كان قانون البيئة هو الأساس المنهجي لرد الفعل على المشاكل البيئية فإن القضاء هو السبيل إلى تنفيذ هذا الأســــاس بطريقة ينبغي أن تؤتى ثمارهـا ، فالنظام القضائي من خلال إحاطته الواسعة بالمفاهيم البيئية وحساسيتها وإدراكا لدوره تجاه مسئولية تعزيز القاعدة القانونية ينبغي أن يلعب دوراً أعمق بكثير مما يلعبه الآن فى مجال تفسير وتطوير وتنفيذ قانون البيئة .
وقد عبرت مبادئ جوهانسبرج عن ذلك بقولها ” ونعرب عن إيماننا الراسخ بأن الهيئة القضائية بإلمامها الجيد بسرعة اتساع نطاق حدود القانون البيئي ، وبإدراكها لدورها ومسئولياتها فى تعزيز تنفيذ وتطوير وإنفاذ القوانين والضوابط والاتفاقيات الدولية المتصلة بالتنمية المستدامة ، تؤدى دوراً حاسماً فى تعزيز المصلحة العامة فى ظل بيئة صحية ومأمونة ، ونقر بأهمية تضمين القانون البيئي والقانوني المتعلق بالتنمية المستدامة بشكل جيد فى المناهج الدراسية الأكاديمية وفى الدراسات القانونية والتدريب فى جميع المستويات ، ولاسيما فى أوساط القضاة وغيرهم من العاملين فى سير الإجراءات القضائية .
وفى سبيل الوصول إلى هذه الغاية ينبغي علينا وضع خطط متكاملة من شأنها تكوين الكوادر القضائية المتخصصة فى مجال إنفاذ قوانين البيئة لإمكان قيامهم بتفسير النصوص التي تتضمنها تلك القوانين كمتخصصين وإعمال التوازن بين الحاجة لتطبيق النص وتحقيق دفاع المتهمين ، والقضاء وحده هو الكفيل بتحقيق الغايات المستهدفة من قواعد القانون ويمكن ذلك فى نظرنا بالعمل على تحقيق المبادئ الآتية : ـ
(1) العمل على تخصيص دائرة فى كل محكمة ابتدائية للفصل فى قضايا البيئة ، وأن تكون هذه الدائرة مزودة بعضو فني خبير ، وأن تتسم إجراءاتها بطابع خاص يتفق وخطورة المشاكل البيئية بحيث تتم في سرعة وحسم سيما في القضايا المتعلقة بالكوارث البيئية .
(2) تدريب القضاة الذين يشغلون تلك المحاكم على التصدي للقضايا المتعلقة بالبيئة والعمل على إلمامهم بالمستجدات على الساحة الدولية ودراستها لتكوين الخلفية القانونية المتخصصة لهؤلاء القضاة ولتكوين رعيل متخصص منهم ، ولا يكون ذلك إلا من خلال الاحتكاك المباشر مع القضاء المقارن في إطار العديد من المؤتمرات والندوات العلمية وتبدل الزيارات .
(3) إطلاع القضاة على جميع المعاهدات التي انضمت إليها مصر وتدريبهم على تطبيق أحكامها تطبيقاً واعياً بطبيعتها الدولية وانعكاس ذلك التطبيق على المستويين الوطني والدولي .
(4) إنشاء بنك للمعلومات البيئية ، يمكن القضاة من الإلمام بكافة المستجدات علي الصعيد الدولي في مجال صيانة البيئة . ونعتقـــد أن ذلك من شأنه ، تعزيز قدرات القضاة وكل من لــــه دور حاسم فى المستوى الوطني في عملية تنفيذ وتطوير وإنفاذ القانون البيئي بما في ذلك الاتفاقات البيئية متعددة الأطراف وبخاصة عبر الإجراءات القضائية ، وكفيل بخلق جيل جديد من القضاة يؤمن بقضايا البيئة وأهميتها ويلم إلمامها كافياً بقواعد إنفاذ قوانينها ومعاهداتها الدوليـة ، و يدرك البعد العالمي للمسألة كحق من حقوق الإنسان ..
الإضرار بالصحة العمومية والأنظمة البيئية البحرية.
عرقلة الأنشطة البحرية بما في ذلك الملاحة والتربية المائية والصيد البحري.
إفساد نوعية المياه البحرية من حيث استعمالها.
التقليل من القيمة الترفيهية والجمالية للبحر والمناطق الساحلية، والمساس بقدراتهما السياحية.
يتضح من نص هذه المادة أن الأفعال المكونة للجرائم البيئة لا تقتصر على الإقدام على تخريب أو تلويث المياه البحرية بمواد تغير من طبيعتها، بل يمتد إلى كل فعل ينقص من جماليتها ويعيق تحقيق الغرض الأساسي منها.
ويقصد بالتلوث المائي من المنظور العلمي إحداث خلل وتلف في نوعية المياه ونظامها الإيكولوجي، بحيث تصبح المياه غير صالحة لاستخداماتها الأساسية وغير قادرة على احتواء الجسيمات والكائنات الدقيقة والفضلات المختلفة في نظامها الإيكولوجي، وبالتالي يبدأ اتزان هذا النظام بالاختلال، حتى يصل إلى الحد الإيكولوجي الحرج، والذي تبدأ معه الآثار الضارة بالظهور على البيئة.
وتواجه الموارد المائية في العالم إشكالات لا حصر لها، تتمثل في التدهور المستمر في نوعيتها وفي صلاحيتها للوفاء بالاستخدامات المقصودة منها، بسبب التلوث الناشئ عن الأنشطة البشرية المختلفة وعن الانقلاب الصناعي الهائل، وغير ذلك من الأسباب التي أدت إلى تلويث المياه وجعلها غير صالحة تماما للاستخدامات اللازمة للحياة.
وكان موضوع البيئة البحرية محل اهتمام العديد من الدول سواء من حيث تنظيمه في تشريعاته الداخلية، أو على الصعيد الدولي من خلال الاتفاقيات المبرمة في هذا المجال والتي نذكر منها:
الاتفاقية الدولية لمنع تلوث البحار بالزيت (1954).
اتفاقية جنيف الخاصة بأعالي البحار (1958).
الاتفاقية الدولية المتعلقة بالتدخل في أعالي البحار في حالات الكوارث الناجمة عن التلوث بالنفط ، المنعقدة (بروكسل 1969).
اتفاقية قانون البحار المنعقدة في مونتجو (1982).
الجرائم الماسة بالأرض (التلوث الأرضي): يقصد بالتلوث الأرضي ذلك التلوث الذي يصيب الغلاف الصخري والقشرة العلوية للكرة الأرضية، ويعتبر الحلقة الأولى والأساسية من حلقات النظام الإيكولوجي
وتمثل التربة العنصر البيئي الأكثر حيوية في الوسط البيئي لكونه أساس الدورة العضوية التي تجعل الحياة ممكنة، وقد تسببت التأثيرات التي أحدثها الإنسان وكذا الزيادة السكانية السريعة في العالم وما صاحبها من تزايد الحاجة إلى المزيد من الغذاء والطاقة، كل ذلك أدى إلى الإسراف الشديد في استخدام الأرض استخداما مكثفا، وإلى الإفراط الهائل في استعمال كل ما من شأنه زيادة الإنتاج الغذائي من أسمدة كيماوية ومبيدات حشرية وغيرها الأمر الذي أدى إلى استنزاف التربة وتدهورها
ويندرج هذا الاستغلال المفرط لعناصر الأرض ضمن الأفعال التي تضر بالبيئة بشكل غير عمدي نتيجة قلة الوعي بضرورة المحافظة على موارد الأرض وترشيد استهلاكها.
ولذلك أولت التشريعات هذا العنصر البيئي اهتماما خاصا، من حيث إصدار القوانين المتعلقة بترشيد استخدام التربة والمحافظة على توازن مكوناتها ومنع تلويثها وحمايتها من التجريف وغيره من الأضرار.
وإدراكا بأهمية حماية الموارد الطبيعية والبيئة الأرضية، سعى المجتمع الدولي إلى توحيد الجهود لمواجهة الجرائم البيئية الماسة بالأرض، وكان من بين أهم الاتفاقيات التي أبرمت في هذا المجال:
الاتفاقية الإفريقية لحفظ الطبيعة والموارد الطبيعية المنعقدة في مدينة الجزائر عام 1968.
الاتفاقية المتعلقة بحماية الأراضي الرطبة ذات الأهمية الدولية المنعقدة في مدينة رامسار الإيرانية عام 1971.
الاتفاقية المتعلقة بحماية التراث الثقافي والطبيعي المنعقدة في باريس عام 1972.
الاتفاقية الدولية لمكافحة التصحر لعام 1994
وبالرغم من حرص الدول على صياغة التشريعات المتعلقة بحماية البيئة ، وبالرغم من الاتفاقيات الدولية التي أبرمت في هذا المجال، إلا أن القوانين والاتفاقيات لا يمكن أن تكون لها فعالية لوحدها إلا إذا اقترنت بإجراءات صارمة تساعد على الحد من النشاطات المضرة بالبيئة.
المحور الثاني: دور القضاء الدولي في حماية البيئة
كانت بداية الجهود الدولية لوضع أسس حماية البيئة على الصعيد الدولي بانعقاد مؤتمر ستوكهولم سنة 1972، حيث شكل هذا المؤتمر أول استعراض دقيق للأثر البشري على البيئة، و يعتبر بمثابة محاولة لصياغة نظرة عامة على الأساليب التي تتيح تحقيق التحدي للحفاظ على البيئة البشرية وتعزيزها، وبعد مؤتمر ستوكهولم زاد الوعي العالمي بالقضايا البيئية زيادة مشهودة، كما اتسع نطاق صنع القانون الدولي البيئي
وكان بعده مؤتمر ريو الذي طرح الأسس القانونية والسياسية التي تقوم عليها التنمية المستدامة، وتمت صياغة ميثاق الأرض من خلاله ليشكل إعلانا رسميا يتصل بالالتزامات والحقوق القانونية التي تتعلق بقضية البيئة والتنمية على غرار الميثاق العالمي للطبيعة الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة
. لتتوالى بعدها الاتفاقيات والمواثيق التي كرست حماية البيئة بمختلف مكوناتها، وتوحيد الجهود من أجل تحمل المسؤوليات لكل طرف في مجال حماية البيئة، منها مؤتمر التنمية المستدامة “جوهانسبورغ 2002”.
ومصطلح القضاء الدولي البيئي لا يعني وجود جهاز قضائي أو محكمة دولية مختصة بالفصل في المنازعات البيئية حاليا، بل هو مصطلح يشمل كافة المحاكم والجهات القضائية الدولية التابعة للأمم المتحدة أو المنبثقة عن اتفاقيات ذات صلة بحماية إحدى العناصر البيئية، يضاف إليها مشروع المحكمة الدولية للبيئة الذي لم ير النور إلى يومنا هذا. إذ أنه في عدة مناسبات وخلال العديد من المؤتمرات،
تكررت الدعوات لإقامة قضاء دولي خاص بالمنازعات في القضايا البيئية، من خلال إنشاء محكمة دولية بيئية، تعرض أمامها القضايا البيئة ذات الطابع الدولي. وقبل التطرق إلى فكرة المحكمة البيئية الدولية، ستتم الإشارة إلى بعض الجهات القضائية الدولية التي تم اللجوء إليها على مدى السنوات الماضية في قضايا تتعلق بالبيئة.
محكمة التحكيم الدائمة: يعتبر التحكيم من الناحية التقليدية طريقة سهلة القبول للدول نظرا لمرونته النسبية، حيث تحتفظ الدول المتنازعة عادة بحق اختيار أعضاء هيئة التحكيم والقواعد التي تفصل بمقتضاها في النزاع وأن تتقيد بها، أو تطبيق هيئة التحكيم القواعد الثابتة والمتعارف عليها في القانون الدولي
تأسست المحكمة الدائمة للتحكيم عام 1899 بهدف تسهيل اللجوء إلى التحكيم وتسوية المنازعات بين الدول، وقد تطورت هذه المحكمة لتصبح مؤسسة تحكيمية معاصرة لها أغراض متعددة بحيث تلبي الطلب المتزايد لتسوية المنازعات في المجتمع الدولي عن طريق التحكيم. تم إنشاء محكمة التحكيم بموجب اتفاقية التسوية السلمية للنزاعات الدولية التي تم إبرامها في لاهاي عام 1899 خلال مؤتمر السلام الأول،
حيث تمت الدعوة إلى هذا المؤتمر عن طريق قيصر روسيا (نيكولا الثاني) وذلك من أجل السعي إلى تحقيق السلام العالمي، وكان من أبرز أهدافها تدعيم نظم تسوية المنازعات الدولية في إطار التحكيم الدولي
تتكون هذه المحكمة من 121 دولة عضوا، ويتولى العمل فيها مجموعة أعضاء يرأسهم الأمين العام، وقد تولى هذا المنصب منذ سنة 1900 إلى غاية يومنا هذا 13 أمينا عاما آخرهم Hugo H.Siblesz .
وعن هيكلها الإداري تتضمن حكمة التحكيم الدولية: المجلس الإداري، المكتب الدولي، مكتب موريشيوس، أعضاء المحكمة (خبراء ومحكمين)، صندوق مساعدات مالية
في بداية عهد المحكمة الدائمة للتحكيم، كانت لا تتولى التحكيم إلا في النزاعات بين الدول القومية، غير أنها لم تمارس أي عمل لها عبر فترة طويلة من الزمن. وللحفاظ على وجودها، قامت المحكمة بتوسيع نطاق التحكيم الخاص بها ليشمل النزاعات بين الدول القومية والقطاعات الخاصة.
لدى هذه المحكمة خبرة في حل النزاعات المتعلقة بالموارد الطبيعية، فقد تم إعداد قائمة بأسماء محكمين مختصين في مجال المنازعات البيئية، وأيضا قائمة بأسماء خبراء فنيين وتقنيين في ذات المجال. وتقوم محكمة التحكيم الدائمة بإدارة عدد من المنازعات البيئية التي تنشأ بين دولتين وذلك بموجب العديد من الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف مثل معاهدة 1992 بشأن حماية البحرية لشمال شرق الأطلسي ( OS par convention 1992) ومعاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار 1982 واتفاقية مياه السند 1960 ومعاهدة كلورايد الراين 1976، كما قامت المحكمة بإدارة بعض المنازعات البيئية التي نشأت بين الدول بموجب اتفاقيات دولية ثنائية ومشارطات تحكيم.
كما تقوم هذه المحكمة بإدارة النزاعات التي تنشأ بين الدول وأشخاص القانون الخاص بموجب عدد من الاتفاقيات الدولية الثنائية ومتعددة الأطراف والعقود وغيرها من الأدوات التعاقدية، حيث يكون موضوع النزاع في العديد من تلك المنازعات هو القواعد الداخلية المنظمة للبيئة داخل الدولة أو التزامات الدولة المضيفة وفقا لقانون البيئة الدولي.
ومنذ نشأتها، تمكنت هذه المحكمة من النظر في حوالي 50 قضية رفعت أمام المحكمة منذ سنة 1902، وانتهت إلى 43 حكما. وقد أشرفت المحكمة أيضا على خمس لجان للتحقيق وأدارت ثلاث لجان توفيق.
وقد لعبت هذه المحكمة دورا في تسوية النزاعات عن طريق التحكيم، بإصدارها قرارات التحكيم في العديد من القضايا، وغالبا ما تكون هذه القرارات سرية ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك. ومن بين القضايا التي فصلت فيها المحكمة واتفق الأطراف على السماح بنشر معلومات عنها:
وقد ساهمت محكمة التحكيم بصفة خاصة وأسلوب التحكيم الدولي بصفة عامة في حل العديد من النزاعات البيئية، فهو أسلوب يساهم في وضع أسس لتنمية وتطوير التشريعات الدولية البيئية اللاحقة، وغالبا ما تلجأ الأطراف إلى المشاركة فيه بفعالية. وما يفسر عدم اعتماده أحيانا هو كونه أقرب إلى الآلية الدبلوماسية منه إلى الآلية القضائية، ومن ناحية أخرى يسجل لصالح التحكيم كونه وسيلة متاحة للدول للاستعانة به للفصل في المنازعات البيئية.
وقد استطاعت محكمة التحكيم الدائمة، ومن خلال سجلها في تسوية المنازعات البيئية أن تتوصل في ضوء هذه الخبرة إلى وضع مجموعة من القواعد المتعلقة بالمنازعات البيئية، وذلك بتاريخ 19 جوان 2001، حيث مكنت المحكمة من أن تصبح منتدى بيئيا يساهم في الفصل في المنازعات القضائية البيئية، وقد عرفت هذه القواعد بالقواعد البديلة للتحكيم الخاصة بالمنازعات المتعلقة بالموارد الطبيعية و/أو البيئية، وقد تم تبنيها بالإجماع من طرف المحكمة، وكانت ثمرة لبذور تم وضعها من قبل المكتب الدولي والمجلس الإداري لمحكمة التحكيم الدائمة في مبادرة لتجديد المحكمة في التسعينيات
ويتم اللجوء إلى هذا الأسلوب في حالة اتجاه إرادة الأطراف إلى حل دبلوماسي بعيدا عن المنازعات واللجوء إلى القضاء، أما عند استحالة ذلك، هناك محكمة أخرى يمكن أن ترفع أمامها المنازعات البيئية وهي محكمة العدل الدولية.
محكمة العدل الدولية: هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، تتولى هذه المحكمة الفصل طبقا لأحكام القانون الدولي في النزاعات التي تنشأ بين الدول، كما تختص في تقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
تأسست محكمة العدل الدولية سنة 1945 بموجب ميثاق الأمم المتحدة وبدأت نشاطها سنة 1946، يقع مقرها في قصر السلام بهولندا، هي محكمة دائمة تختص في حل النزاعات القانونية المرفوعة أمامها من طرف الدول وفقا للقانون الدولي من جهة، ولها أيضا دور استشاري في المسائل القانونية التي يمكن طرحها من طرف أجهزة هيئة الأمم المتحدة من جهة أخرى. وقرارات محكمة العدل الدولية غير قابلة للاستئناف من قبل المعنيين بالأمر
بالنسبة للجهات المخول لها عرض قضايا أمام محكمة العدل الدولية، لا يجوز سوى للدول رفع قضايا أمام هذه المحكمة، وذلك بحسب نص المادة 34/1 من النظام الأساسي للمحكمة الذي جاء فيه: ” يحق للدول وحدها أن تكون أطرافا في الدعاوى التي ترفع أمام المحكمة”، إذ أنه عند إعداد واعتماد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية سنة 1920، تم الاقتصار على بعد (ما بين الدول) لممارسة المحكمة لوظيفتها الدولية القضائية في مسائل المنازعات
وتعد هذه النقطة محل انتقادات وجهت لدور محكمة العدل الدولية، والذي يبقى قاصرا طالما أن الأشخاص المخول لهم التقاضي أمامها هم فقط من الدول، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا البيئية والتي يتأثر بها الأفراد والمنظمات النشطة في المجال البيئي إلى جانب الدول، وكلها أطراف لها الحق في رفع دعوى ضد انتهاكات تحدث على البيئة بالنظر إلى الضرر المباشر الذي تتعرض له أو كونها من المدافعين عن الحق في سلامة البيئة، وهذا النقد هو ما جعل دور محكمة العدل الدولية في نظر الكثيرين مقيدا في مجال حماية البيئة.
كما هو الحال في محكمة التحكيم الدائمة، اعتمدت محكمة العدل الدولية على إرادة الأطراف في إحالة المنازعات إليها، مع إضافة إمكانية جديدة بأن تعترف الدولة مقدما باختصاص المحكمة الإلزامي فيا يتعلق بأي نزاع يمكن أن ينشأ في المستقبل مع دولة أخرى قد أعلنت ذلك أيضا، إضافة إلى ذلك فإن للمحكمة رأيا استشاريا. وذلك يعني أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية يكون اختياريا على أن تعترف الأطراف اختياريا باختصاص المحكمة الإلزامي في النزاعات المستقبلية، ولا يكون للمحكمة الحق في التدخل للفصل في قضايا لم تعرض عليها من قبل أطرافها.
غير أن هناك بعض المنازعات التي تقر فيها المحكمة بولايتها الجبرية، ويتعلق الأمر بجميع المنازعات القانونية التي تقوم بينها وبين دولة تقبل هذا الالتزام الجبري متى كانت هذه المنازعات تتعلق ب:
تفسير معاهدة من المعاهدات.
أي مسألة من مسائل القانون الدولي.
التحقيق في واقعة من الوقائع إذا ثبت أنها كانت خرقا لالتزام دولي.
تحديد نوع التعويض المترتب على خرق التزام دولي (المادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة). ويمكن أن تنطبق الحالتان الأخيرتان على القضايا البيئية من حيث إمكانية تدخل المحكمة عند ثبوت خرق التزام دولي أو لتقدير تعويض عن خرق معين وذلك طبقا للشروط الواردة في هذا السياق.
وتختص المحكمة في النظر في جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، وكذلك جميع المسائل المنصوص عليها خاصة في ميثاق الأمم المتحدة أو المعاهدات و الاتفاقات المعمول بها (المادة 36).
وفي هذا السياق تعتبر القضايا المتعلقة بالبيئة من بين القضايا التي تم تنظيمها في شكل معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف والتي أبرمت بشكل متزايد، وبالتالي تدخل ضمن اختصاص محكمة العدل.
وبالنسبة للاختصاص الاستشاري للمحكمة الدولية، تعتبر الآراء الاستشارية التي تصدرها المحكمة مجرد فتاوى غير ملزمة للجهة التي طلبت الفتوى، لكن تبقى لها القيمة القانونية التي تتميز بها باعتبار الجهة المصدرة لها. ومن أمثلة هذه الآراء الرأي الاستشاري الذي أصدرته المحكمة في مسألة مشروعية الاستعمار والتهديد بالأسلحة النووية لعام 1996.
وعن تشكيل محكمة العدل الدولية – بحسب المادة 2 من النظام الأساسي للمحكمة- تتكون من قضاة مستقلين ينتخبون من الأشخاص ذوي الصفات الخلقية العالية، الحائزين في بلادهم على المؤهلات المطلوبة للتعيين في أرفع المناصب القضائية، أو من المشرعين المشهود لهم بالكفاية في القانون الدولي، وهذا بغض النظر عن جنسيتهم. ويقدر عدد أعضاء المحكمة ب 15 عضوا، بحيث لا يجوز أن يكون بها أكثر من عضو واحد من رعايا دولة بعينها (المادة 3 من النظام الأساسي للمحكمة) وينتخب أعضاء المحكمة لمدة 9 سنوات، ويجوز إعادة انتخابهم مرة أخرى (المادة 13 من القانون الأساسي للمحكمة).
وقد نص النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية على ما يسمى بأسلوب الغرف أو الدوائر التي تنشأ وفقا لأسلوب معين لمعالجة قضايا معينة. حيث تشكل من وقت لآخر دائرة أو أكثر تتألف كل منها من ثلاث قضاة أو أكثر حسبما تقرره، وذلك لمعالجة قضايا خاصة كقضايا العمل وتلك المتعلقة بالترانزيت والمواصلات (المادة 26/2 من القانون الأساسي للمحكمة) وينحصر الاختصاص في هذه الدوائر في القضايا التي يلجأ فيها أطراف الدعوى إليها طلبا للحكم، (المادة 26/3 من القانون الأساسي للمحكمة) بمعنى ليس لها اختصاص جبري على أي نوع من القضايا. ويعد كل حكم صادر عن هذه الدوائر كأنه صادر عن المحكمة ذاتها (المادة 27 من القانون الأساسي للمحكمة).
ومن بين غرف المحكمة الدولية والتي تعنى بقضايا البيئة ” غرفة محكمة العدل الدولية لشؤون البيئة” وهي غرفة خاصة ودائمة أنشأتها المحكمة بتاريخ 19 جويلية 1993 تتشكل من 7 قضاة للتخصص البيئي
، وقد لاقت فكرة إنشاء الغرفة استحسان الكثير من الملاحظين، واعتبرت بمثابة خطوة جادة نحو بناء قضاء بيئي متخصص، إذ يعد إنشاء هذه الغرفة بمثابة تشجيع للدول على الإدلاء بالقضايا البيئية بعيدا عن حالة الامتناع الفعلي أو المزعوم الذي تبديه بعض الدول تجاه تقديم مثل هذه القضايا أمام المحكمة، كذلك نظرا لما يتميز به نظام الغرف من سرعة الفصل في القضايا وسهولة إجراءاتها
.في حين شكك آخرون في مدى إقبال وإرادة الدول في اللجوء إليها. وبالفعل منذ سنة 2006 توقفت إجراءات إعادة الانتخابات الخاصة بعضوية الغرفة، وهو ما يدل على عدم ورود أي قضية للفصل فيها أمام هذه الغرفة البيئية.
وتبقى الإشكالات التي واجهت محكمة العدل الدولية في مجال حماية البيئة، هي ذاتها الإشكالات التي تواجه مختلف الجهات القضائية الأخرى في هذا المجال، والتي من بينها كون الأحكام التي تقضي بها قد تشكل ضغطا عاما لتحديد حقوق وواجبات الدول، مما يجعل الدول غير راغبة بعرض منازعاتها إلى هذه الهيئة التي يصعب السيطرة عليها أو توجيهها، ويؤكد ذلك رفض كندا السماح لمحكمة العدل الدولية الاستماع لأية منازعة تتعلق بتشريعها لمنع تلوث مياه القطب الشمالي، وفي الدفاع عن قرار كندا لربط التحفظ المتعلق بمسائل التلوث مع إعلانها القبول بحكم محكمة العدل الدولية الإجباري.
ونظرا لكون غرفة محكمة العدل الدولية لم تعالج الكثير من القضايا منذ نشأتها، فقد أدى ذلك إلى تخوف من أن تكون عديمة الأثر في مواجهة حجم الجرائم البيئية التي تنتشر بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، ولذلك لم يتم الاعتماد كلية على هذه المحكمة في معالجة هذا النوع من القضايا واستمرت المحاولات في إنشاء قضاء مختص بحماية بعض عناصر البيئة، كما استمرت المطالبة بإنشاء محكمة دولية بيئية تعالج القضايا المتعلقة بالمناخ.
المحاكم المنشأة بموجب اتفاقية قانون البحار: لم يكن اللجوء إلى غرفة محكمة العدل الدولية لشؤون البيئة يتم على نطاق واسع ، وفي الوقت نفسه ظهرت هيئات قضائية أخرى على المستوى الدولي تهدف إلى حل النزاعات البيئية الدولية، وكان بعض هذه الهيئات متخصصا في القضايا المتعلقة ببعض عناصر البيئة دون غيرها، من بين هذه المحاكم تلك التي أنشئت بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982، حيث ترفع أمام هذه المحاكم القضايا المتعلقة بالجرائم الماسة بالبيئة البحرية. وتتمثل المحاكم المنشأة بموجب اتفاقية قانون البحار في : المحكمة الدولية لقانون البحار، محكمة التحكيم المشكلة وفقا للمرفق السابع ومحكمة التحكيم المشكلة وفقا للمرفق الثامن لاتفاقية قانون البحار لسنة 1982.
المحكمة الدولية لقانون البحار: ساهم ميلاد هذه المحكمة في خلق آليات قضائية تتيح لأطراف الدعوى إمكانية تسوية المنازعات العارضة والمتعلقة بتفسير أو تطبيق أحكام الاتفاقية، مقرها مدينة هامبورغ بألمانيا. تتكون المحكمة من هيئة مؤلفة من 21 عضوا مستقلا، ينتخبون من بين أشخاص يتمتعون بشهرة واسعة ومشهود لهم بالكفاءة في مجال قانون البحار (المادة 2 من النظار الأساسي للمحكمة الدولية لقانون البحار)
بالنسبة لاختصاص هذه المحكمة، يحق للدول الأطراف اللجوء إلى المحكمة في القضايا المخول لها الفصل فيها، كما يمكن أن يتم اللجوء إليها من قبل كيانات أخرى غير الدول الأطراف حسب الحالات المحددة في القانون الأساسي لهذه المحكمة ( المادة 20 من القانون الأساسي للمحكمة). ويشير مصطلح ” كيانات أخرى” إلى أن اللجوء إلى المحكمة لا يقتصر على الدول بل يحق لجهات أخرى رفع قضاياها أمام المحكمة، الأمر الذي يجعل اختصاصها موسعا.
ويشمل اختصاص هذه المحكمة جميع المنازعات وجميع الطلبات المحالة إليها وفقا لهذه الاتفاقية، وجميع المسائل المنصوص عليها تحديدا في أي اتفاق آخر يمنح الاختصاص للمحكمة (المادة 21 من القانون الأساسي للمحكمة). وما يلاحظ من خلال نصوص القانون الأساسي لهذه المحكمة أنها لم تملك حق إصدار الآراء الاستشارية كما هو الحال في محكمة العدل الدولية، فكل قراراتها ذات طابع قضائي.
أسباب المطالبة بإنشاء محكمة دولية للبيئة: تعددت أسباب المطالبة بإنشاء المحكمة البيئية الدولية، ومن بين الأسباب التي أوردها التحالف من أجل محكمة دولية بيئية C.E ما يلي :
إيجاد مؤسسة قانونية عالمية من شأنها أن تكون مجهزة للاستماع إلى الأدلة العلمية والتقنية المشتركة بين القضايا البيئية والجرائم الدولية.
النظر والفصل في المنازعات البيئية.
التأمل في أن تلعب المحكمة دورا فعالا في تنفيذ القانون البيئي على النحو المنصوص عليه.
أهداف مشروع المحكمة الدولية البيئية: يهدف إنشاء المحكمة البيئية الدولية إلى جعلها بمثابة منتدى لتسوية المنازعات البيئية ذات الطابع الدولي، والاستفادة من العلوم البيئية والقانون الدولي للفصل بشكل نزيه ومستقل فيما يعرض عليها من قضايا.
تشجيع التوصل إلى التوافق بين الدول حول الإشكالات البيئية القائمة.
تسهيل التواصل وتبادل الخبرات بين الدول.
الاعتماد على قضاة ذوو خبرة عملية وقانونية وكذا الاستعانة بمستشارين قضائيين ولجان مستقلة عند الحاجة.
توفير سبل الوصول إلى العدالة الفاعلة لجميع الجهات الفاعلة في المجتمع الدولي.
بالرغم من الإيجابيات الواضحة في إنشاء محكمة بيئية دولية، وعلى الرغم من إجماع الكثير من الدول على أهميتها، إلا أن ذلك لم يعجل بميلاد هذه المحكمة، وإلى غاية كتابة هذه الأسطر لا يزال مشروع المحكمة الجنائية الدولية حبيس الأدراج، يحظى باهتمام إعلامي كلما اقترب موعد انعقاد قمة للمناخ أو مؤتمرات ذات صلة بقضايا البيئة، ثم ينتهي ذلك بنهاية القمم دون إعلان جديد في هذا الصدد.
وهناك العديد من الأسباب التي أدت إلى عرقلة إنشاء هذه المحكمة، منها أن بعض الدول الكبرى (على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والصين) تتجنب الوقوع في مساءلة قضائية سببها تلويث البيئة، لكونها الملوث رقم واحد للبيئة في العالم، نظرا لحجم انبعاث الغازات الدفيئة والملوثات الناتجة عن تسارع وتيرة التصنيع، وغالبا ما تعيق هذه الدول التوصل إلى قرارات تحملها المسؤولية، فكيف بالموافقة على إنشاء محكمة دولية تحاسب فيها على ما تقوم به. وعلى سبيل المثال بعض الدول لم تقتنع بالالتزامات الواردة في اتفاقية قمة المناخ التي تم إقرارها في باريس (ديسمبر 2015) إلا بعد ، تم التأكيد على أن الاتفاق لا يترتب عنه إدانات أو مطالبات بالتعويض
هناك أسباب سياسة أيضا تتمثل في اتجاه الإدارة الأمريكية الجديدة ممثلة في الرئيس ترامب، الذي يعتبر فكرة الاحتباس الحراري برمتها أكذوبة هدفها عرقلة التطور الصناعي والتكنولوجي، فأصبح من الصعوبة بمكان التوصل إلى اتفاق في هذا المجال مع معارضة طرف مهم، ويتضح ذلك من خلال تلويح الرئيس ترامب بالانسحاب من اتفاقية قمة المناخ المنعقدة في 01 يونيو 2017 في ألمانيا والتي كان يعول عليها في مسألة الإعلان محكمة بيئية دولية. ولذلك يبقى مشروع المحكمة الدولية رهنا للظروف السياسية والاقتصادية إلى أجل غير معروف.
الخاتمة
من خلال هذا العرض الموجز لأهم الأجهزة القضائية الدولية المختصة بالنزاعات البيئية، يمكن القول أن القضاء الدولي قطع شوطا كبيرا قبل أن تأخذ القضايا البيئية اهتماما كافيا على الصعيد الدولي.
إن تطور القضاء الدولي لا يرتبط بالإمكانيات المتاحة بقدر ارتباطه بوجود إرادة حقيقة للدول من أجل الحد من التلوث البيئي وخاصة الناتج عن تطور سياسة التصنيع، وقد يكون من الصعب الحديث عن إنشاء محكمة بيئية دولية على عكس المحكمة الجنائية الدولية، لأن المنازعات البيئية ترتبط بشكل وثيق بالتطور الصناعي للدول الكبرى، وهذه الأخيرة لم تبد جميعها استعدادا لتقبل الشروط وتحمل مسؤوليتها تجاه الأضرار البيئية، لذلك فإن نجاح القضاء الدولي في مهمته، وفرصة إقامة محكمة بيئية دولية يتوقف بشكل كبير على مدى استعداد الدول الصناعية الكبرى لمنح أولوية لقضايا البيئة وتحمل مسؤولياتها بالتساوي.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة من أجل وضع أسس لقضاء دولي بيئي يكفل حماية عناصر البيئة من أي اعتداء، ومع تنوع الجهات القضائية المختصة في هذا المجال وتوسع صلاحياتها في الفترة الأخيرة يبقى الإشكال في تنفيذ أحكام هذه القضايا قائما، الأمر الذي يستوجب إيجاد آليات فعالة للتنفيذ، إذ أن الإشكال لا يتمثل في غياب جهات قضائية تنظر في قضايا البيئة بقدر ما يتجسد في عدم تنفيذ فعال لهذه الأحكام.
من جهة أخرى يتعين على الدول دعم دور الجهات القضائية الدولية الأخرى في مجال حماية البيئة في انتظار الإعلان عن إنشاء محكمة دولية خاصة بالبيئة.