تجميد الاحتياطيات الروسية .. فجَّر مخاوف أسواق المال العالمية
العقوبات على موسكو.. دفعت دولًا عديدة لمواجهة “الاستعمار الجديد”!!
حتى أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي ..تتحدى هيمنة واشنطن بعملة مشتركة!
التكتلات الاقتصادية والشراكات الجديدة.. تحد من “التنمر على الضعفاء”
تقرير يكتبه
عبد المنعم السلموني
منذ أيام، أعلن الرئيسان، البرازيلي لولا دي سيلفا والأرجنتيني ألبرتو فرنانديز، عن محادثات في مؤتمر مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC) في بوينس آيرس، لإحياء اقتراح دائم لتحدي هيمنة الدولار الأمريكي في المنطقة، ومن شان ذلك أن يضيف إلى الجهود الأخرى التي تهز عرش الدولار.
في مقال نُشر بصحيفة Perfil الأرجنتينية، كتب الرئيسان لولا وفرنانديز أن بلديهما يبحثان عن خيارات لإنشاء عملة مشتركة تسمى سور (الجنوب باللغة الإسبانية)، تهدف إلى تشجيع المعاملات المالية والتجارية بين البلدين. وأضاف وزير الاقتصاد الأرجنتيني سيرجيو ماسا أن البرازيل والأرجنتين ستدعوان دولًا أخرى في أمريكا اللاتينية للانضمام، لكنه حث على التحلي بالصبر مشيرًا إلى صعوبة تحقيق التكامل التجاري.
كان زعيما البرازيل والأرجنتين قد أعلنا، في عام 1987، عن إنشاء “وحدة عملة لتمكين المدفوعات الإقليمية” تسمى جاوتشو.
وفي مقال على موقع كوارتز، يرى دييجو لاسارتي: أن فكرة العملة المشتركة طالما حظيت بزخم في المنطقة، حيث أشار القادة إلى هيمنة الدولار كدليل على الاستعمار الجديد. تستخدم ثلاث دول في أمريكا اللاتينية (الإكوادور والسلفادور وبنما) العملة الأمريكية كعملة محلية أساسية، مما يضمن نفوذًا أمريكيًا ضخمًا في اقتصاداتها.
ومع ذلك، فإن تشكيل عملة مشتركة ليس بالمهمة السهلة. استغرقت المفاوضات الأولية بشأن العملة الموحدة للاتحاد الأوروبي أكثر من عقد. ويتزايد الطلب على بديل للدولار الأمريكي في جميع أنحاء العالم، حيث تروج روسيا والصين لعملتيهما (الروبل واليوان) من أجل المدفوعات الدولية، وعلى الأخص بعد العقوبات الأمريكية الأخيرة على روسيا التي زادت من احتمال أن يصبح الدولار أداة سياسية.
بالإضافة إلى ذلك، تسببت القوة النسبية للدولار في عام 2022 في ارتفاع أسعار المستهلكين وأعباء سداد الديون في بعض المناطق، حيث قالت حكومة ميانمار الجديدة إن الدولار يُستخدم “للتنمر على الدول الأصغر”.
برزت الحاجة الملحة إلى عملة بديلة للدولار، بعد أن جمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها 300 مليار دولار تمثل احتياطات العملة الأجنبية للبنك المركزي الروسي. ويعد هذا المبلغ كبيرًا، حتى بالنسبة لبلد بحجم روسيا. وهو يعادل حوالي 35% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي. كما تم تجميد أصول مجموعة واسعة من الأفراد والبنوك الروسية، وتم فرض قيود مشددة على وصول روسيا إلى نظام مدفوعات سويفت.
لقد شهدنا تطبيق مثل هذه الإجراءات على دول مثل أفغانستان وإيران وفنزويلا في الماضي، لكن حزمة العقوبات هذه غير مسبوقة، ليس فقط بسبب نطاقها وحجمها ولكن أيضًا لأنها تستهدف قوة عالمية كبرى. هذا الإجراء يوضح للعالم أن وصول كل دولة إلى احتياطاتها أصبح مرهونًا بسياستها الخارجية.
رداً على ذلك، سعت روسيا للاعتماد على أنظمة الدفع بغير الدولار واستنفاد الأصول الاحتياطية غير الدولارية، وانضمت إلى إيران والدول الأخرى، التي فرضت الولايات المتحدة عليها العقوبات، في السعي وراء البدائل.
يتساءل تقرير لعدد من الكتاب على موقع warontherocks: هل هذه العقوبات التاريخية تشير إلى نهاية هيمنة الدولار؟ ويجيب: نعتقد أن أي تغيير، على المدى القصير، غير مرجح. ومن المفارقات أن الأحداث الأخيرة ربما تكون قد عززت الاعتماد على الدولار وسلطت الضوء على جاذبيته المتمثلة في أسواق رأس المال العميقة والسائلة؛ والقابلية للتداول والتحويل؛ وغيرها. لكن على المدى الطويل، يجب أن يكون أي بديل قادرًا على التنافس بناء على هذه المقاييس.
ظل دور الدولار يتراجع على مدى العقدين الماضيين، حيث انخفضت حصته من العملات الاحتياطية من 70% إلى 60% خلال تلك الفترة.
في تحليل مفصل لتوليفة صندوق النقد الدولي للعملات الأجنبية الرسمية، تظهر بيانات الاحتياطيات أن ربع مقدار الانخفاض في الدولار هو تحول إلى الرنمينبي (اليوان) الصيني، فضلاً عن عملات الاحتياطي غير التقليدية.
ساهمت بعض التغييرات في التآكل البطيء للدولار كعملة مهيمنة في العالم. كان يتم تسعير البضائع الأجنبية بالدولار، لكن هذا بدأ يتغير بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وتحسب روسيا الآن فواتير صادراتها السلعية للدول “غير الصديقة” بالروبل. المملكة العربية السعودية منفتحة على الصين لدفع ثمن النفط باليوان. لقد بدأنا نرى جهودًا للابتعاد عن الدولار في عالم الفواتير. وبالطبع، فإن صعود الصين كأكبر شريك تجاري للعديد من الدول يزيد من حاجتها إلى أصول اليوان.
ويقول التقرير: يبدو أن تراجع هيمنة الدولار قد بدأ بالفعل، ونتوقع أن يستمر هذا التراجع، خاصة بعد الرد الغربي على الحرب في أوكرانيا. أثارت إجراءات تجميد الاحتياطيات الروسية مخاوف الأسواق المالية العالمية.
المؤكد أن الرنمينبي والذهب مقبولان سياسيًا من قبل الدول خارج الغرب. لكن أيًا من الخيارين لم يوفر وظيفة البديل للاحتياطيات المتحالفة مع الدولار. كما أن احتياطيات الذهب ليست “سهلة الاستخدام” بكميات كبيرة. كان هناك اندفاع من قبل روسيا وغيرها لتخزين الذهب محليًا لمنع تعرضه للعقوبات الأمريكية. ومع ذلك، فالاحتفاظ بالذهب محليًا، يتطلب معاملة دولية لتحويله إلى عملة أجنبية لأغراض الدفع. باختصار، يؤدي الذهب أداءً جيدًا من حيث الأمان ولكنه يفتقر إلى السيولة.
الواضح أن اليوان يقدم بديلاً محتملاً طويل الأجل ويمكن أن يجتذب بعض الاحتياطيات الإضافية من حلفائه السياسيين بعد العقوبات الروسية.
ورغم أن القدرة على الابتعاد عن النظام الحالي المرتكز على الدولار محدودة حاليًا، فإن هذا الهيكل يمكن أن يتغير بمرور الوقت. وقد تكون التكاليف الاقتصادية لمثل هذا التغيير مرتفعة للغاية.
ويقول بيتر كونيج في تقرير على موقع جامعة رينمن الصينية: على مدى عقود من الزمان، تعرض العالم لاقتصاديات الدولار التي تقوم الولايات المتحدة بتسليحها، حيث يتم توجيه قذائف العقوبات الأمريكية يمنة ويسرة، كلما رفض نظام مستقل وذاتي السيادة تنفيذ ما تطلبه واشنطن.
ويضرب مثالًا بالتقارير الواردة من اليونيسف ومصادر أخرى، حول الأطفال الذين قتلوا بسبب العقوبات في العراق خلال التسعينيات، بأن عددهم يتراوح بين 500 ألف ومليون.
ويرى أنه حان الوقت لكسر أداة الاحتيال والموت هذه إلى الأبد، الدولار الأمريكي، والهيمنة الأمريكية المعلنة من جانب واحد على الاقتصاد العالمي.
العقوبات الاقتصادية ممكنة فقط لأن العالم كان -وإلى حد كبير لا يزال -يعتمد على الدولار الأمريكي الذي يسيطر حاليًا على حوالي 60٪ من المعاملات التجارية والنقدية العالمية. كان هذا الرقم قريبًا من 100٪ فقط منذ حوالي 25 عامًا. لذا، فإن الشرق بسياسته المتعلقة بفك الدولرة، يتحرك في الاتجاه الصحيح.
وبالفعل، يجري إنشاء العديد من الشراكات الاستراتيجية والاقتصادية الآسيوية الجديدة وتعزيز الشراكات القديمة.
هناك، على سبيل المثال، الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران التي نشأت عن الاجتماع الأخير لمسؤولي الأمن المعنيين، الروسي نيكولاي باتروشيف وعلي شمخاني الإيراني، وهو أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران.
تشمل التحالفات الاستراتيجية والاقتصادية منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) ، وإيران عضو فيها بالفعل؛ والاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU أوEEU) .
ويشمل فك الارتباط عن التجارة التي يهيمن عليها الدولار، الالتفاف على العقوبات الأمريكية والتعاون في مجال الطاقة بين إيران وفنزويلا.
وتعمل موسكو وبكين على تعزيز مشاريع التكامل الأوروبية الآسيوية، ومبادرة الحزام والطريق (BRI) والاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU). قد يأتي تمويل مبادرة الحزام والطريق ومشاريع البلدان الآسيوية الأخرى من البنك الآسيوي للاستثمار والبنية التحتية (AIIB) ومقره بكين، حيث تم فصله عن الدولار.
يضيف كونيج: حان الوقت لعدم الخضوع لإملاءات واشنطن/ الناتو/ المنتدى الاقتصادي العالمي، والقوة الرأسمالية الهائلة التي تقف وراءها. إن شركات فانجارد Vanguard وبلاك روكBlackRock وستيت ستريت StateStreet وشركات مالية عملاقة أخرى ستصبح عاجزة إذا قررت الحكومات بشكل جماعي وفي انسجام عدم الخضوع للابتزاز النقدي القائم على الدولار.
في عالم متعدد الأقطاب، حيث يتم فصل الاقتصادات الآسيوية والعملات عن عالم الدولار الأمريكي/ اليورو، وكذلك في وجود جهاز للإنتاج والخدمات أكثر استقلالية عن الغرب، يمكن انتزاع قوة الأصول البالغ قيمتها تريليونات الدولارات والتي تمثل عصا القيادة لواشنطن/الناتو.
وقد بدأت إيران وفنزويلا حقبة جديدة لمحاربة العقوبات الأمريكية. قد يساعد تعاونهما في إنتاج الهيدروكربونات، وكذلك في التجارة، على فصلهما تدريجياً عن العقوبات الغربية.
الفكرة تتمثل في خروجهما المشترك من الاقتصاد التجاري الذي يهيمن عليه الدولار، عن طريق بيع البنزين والغاز بعملة أخرى أو أكثر غير الدولار الأمريكي أو حتى اليورو. من الناحية المثالية، قد يرغبان في الانضمام إلى الخطوة الروسية لبيع الغاز بالروبل بدلاً من الدولار الأمريكي.
كانت هذه المبادرة الروسية، بالطبع، بمثابة “انفجار” كبير في أوروبا وأماكن أخرى من العالم، لكن معظم الدول تقبل في النهاية طريقة الدفع الجديدة هذه، وهي طريقة مستقلة تمامًا عن الدولار الأمريكي وشقيقه الصغير، اليورو.
إنه الابتعاد عن نظام سويفت للتحويلات المالية SWIFT الذي يجعل الدول عرضة للعقوبات، فاستخدام هذا النظام -طريقة الدفع الغربية -يوجب أن تمر جميع التحويلات عبر البنوك الأمريكية، مما يزيد من التعرض للتدخلات أو العقوبات الغربية.
يعمل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) على تسريع تصميمه لنظام الدفع المشترك، والذي تمت مناقشته منذ أكثر من عام مع الصينيين تحت إشراف سيرجي جلازييف، وزير التكامل والاقتصاد الكلي في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. ومن خلال هيئته التنظيمية، اللجنة الاقتصادية الأوروبية الآسيوية (EEC) ، قدم هذا الاتحاد اقتراحًا مهمًا للغاية لدول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) والتي هي في طريقها للتحول إلى بريكس +، فيما يشبه مجموعة العشرين لجنوب الكرة الأرضية، حيث انضمت إليها كل من مصر وبنجلاديش، والإمارات العربية المتحدة وأوروجواي.
سيتضمن النظام بطاقة دفع واحدة، في منافسة مباشرة مع Visa و Mastercard– تدمج بالفعل بطاقة MIR الروسية الحالية و UnionPay الصينية و RuPay الهندية و Elo البرازيلية وغيرها.
يرى الكاتب البرازيلي بيبي اسكوبار، في تحليل له على موقع جلوبال ريسيرش، أن ذلك سيمثل تحديا مباشرا، للنظام النقدي الغربي المطبق. وجاء ذلك عقب قيام أعضاء بريكس بإجراء معاملاتهم التجارية الثنائية بالعملات المحلية، وتجاوز الدولار الأمريكي.
وكما لو أن كل ذلك لم يغير قواعد اللعبة بشكل كافٍ، نجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرفع المخاطر من خلال الدعوة إلى نظام دفع دولي جديد قائم على العملات الرقمية والمشفرة.
تم تقديم مشروع مثل هذا النظام مؤخرًا في المنتدى الاقتصادي الأوراسي الأول في بيشكيك، عاصمة قيرغيزستان.
في المنتدى، وافق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي على مسودة اتفاقية بشأن وضع وتداول الأوراق المالية عبر الحدود في الدول الأعضاء، وتعديل اللوائح الفنية.
إن ما يظهر هو الصورة الكبيرة لعالم ممزق بشكل لا رجعة فيه يتميز بنظام تجارة / تداول مزدوج: أحدهما يدور حول بقايا نظام الدولار، والآخر يتم بناؤه حول اتحاد بريكس، والاتحاد الاقتصادي والاجتماعي الأوروبي، ومنظمة شنغهاي للتعاون SCO