عجيب أمر هذا الرجل الأعجمي، الذى فهم من آية ” التوبة ” ما لم يفهمه بعض المتكلمين بالعربية، ووقف منها عند أصدق وأنبل المعانى التى غابت عن بعض أهل العربية، غفلة أو تقصيرا، أو لأمر ما فى نفوسهم، جعلهم يمرون عليها وهم عنها معرضون.
يقول أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة فى مقطع فيديو مازال متاحا على مواقع الإنترنت: ” نحن على بعد أيام فقط من شهر رمضان، ومنذ أكثر من ألف عام ورسالة الإسلام والتعاطف والتراحم التى جاء بها الإسلام تشكل إلهاما للناس حول العالم، وكلمة الإسلام نفسها مشتقة من كلمة السلام، وعندما كنت فى منصب مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين رأيت سخاء الدول الإسلامية التي فتحت أبوابها للأشخاص الذين أجبروا على الفرار من ديارهم، في وقت أغلقت فيه دول أخرى كثيرة حدودها، وقد رأيت فى ذلك تجليا معاصرا لما جاء في سورة ” التوبة ” فى القرآن الكريم : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)، هذه الحماية الخاصة يجب أن تكون مكفولة للمؤمنين وغير المؤمنين على السواء، كما ذكر القرآن الكريم، وهذا تعبير مبهر عن مبدأ حماية اللاجئين، جاء قبل قرون من إبرام اتفاقية الأمم المتحدة عام 1951 للاجئين.”
هل سمعتم أحدا من قبل يتعرض لهذه اللمحة القرآنية البديعة، والتجلى المعاصر لها فى قضية حماية اللاجئين، وينتصر للبيان القرآنى الصادر قبل قرون، ولسخاء الدول الإسلامية مع اللاجئين قبل أن يتحول المسلمون إلى لاجئين؟
لقد أبهرنى الرجل وهو يتكلم بهذه الفصاحة والحماس والتدفق، دون أن ينظر فى ورقة مكتوبة له، ويعرض المعنى الدقيق للآية الكريمة كأنه يقرأها من مصحف أمامه، وهو ما يعنى أنه قرأها قبل ذلك وفهمها واستوعبها عن اقتناع، ثم ربط هذا المعنى الراقى للتعامل مع اللاجئين بالقيم السامية لشهر رمضان، شهر التعاطف والتراحم والسلام كما قال .
كأن الرجل تعمد أن يذكر الغرب بكرم وسخاء البلاد العربية والإسلامية التى فتحت أبوابها للاجئين الأوروبيين من كل الجنسيات، الفارين من ويلات الحربين العالميتين، فعاشوا فيها بسلام وأمن على حياتهم وأسرهم ودينهم وأرزاقهم، وكان من هؤلاء اللاجئين يونانيون وإيطاليون وقبارصة وألبان وصرب وبوسنيون، ومنهم يهود لجأوا إلى فلسطين فارين من القتل والاضطهاد، ثم انقلبوا وحوشا ضارية بعد أن تم تسليحهم وتدريبهم عسكريا ليدمروا البلد الذى استقبلهم، ويقتلوا أهله ويشردوهم برعاية غربية.
وكان جوتيريش يتحدث فى هذا الأمر خلال فعالية نظمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لإحياء اليوم الدولي الأول لمكافحة كراهية الإسلام ” الإسلاموفوبيا “، تنفيذا للقرار الذى اتخذ العام الماضى باعتماد إحياء هذا اليوم فى 15 مارس من كل عام، وقال فى هذه المناسبة إن مسلمي العالم، الذين يبلغ عددهم نحو ملياري نسمة، هم تجسيد للإنسانية بكل تنوعها، وأنهم ينحدرون من كل ركن من أركان المعمورة، لكنهم يواجهون في كثير من الأحيان تعصبا وتحيزا لا لسبب سوى عقيدتهم.
ويعد إقرار اليوم العالمى لمكافحة ” الإسلاموفوبيا ” لفتة إيجابية من المنظمة الدولية، لكنها لا تكفى لتحقيق الهدف الإنسانى النبيل الذى تقرر من أجله، إذ لا يزال على الحكومات الغربية أن تتخذ إجراءات على الأرض للحد من تفشى هذا الوباء، الذى يعبر عن نفسه فى جرائم شنيعة مثل حرق المصاحف، وهدم مقابر المسلمين ومساجدهم، وقتل المصلين الآمنين، ناهيك عن التمييز العنصرى البشع فى رفض استقبال اللاجئين المسلمين من الأساس، بينما يتم فتح الأبواب لغيرهم.
وقد ذكر تقرير صدر مؤخرا عن المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الدين والمعتقد، ونشره موقع الأمم المتحدة، أن الشك والتمييز والكراهية الصريحة تجاه المسلمين والتحيز ضدهم والتحريض عليهم وصل إلى أبعاد وبائية، وفي الدول التي يمثل فيها المسلمون أقلية يتعرضون للتمييز حتى في العثور على عمل وفي التعليم، بسبب تصورات معادية بأن المسلمين يمثلون تهديدات للأمن القومي والإرهاب، كما تتعرض النساء المسلمات إلى الجانب الأكبر من جرائم الكراهية في تلك المجتمعات، بفعل لباسهن الذي يشير إلى عقيدتهن.
ومما يؤسف له أن ظاهرة ” الإسلاموفوبيا “، التى تعنى فيما تعنى الخوف من الإسلام، أصابت قطاعات من أبناء البلدان الإسلامية، انفصلوا عن مجتمعاتهم وتراثهم وحضارتهم، وانقلبوا تحت ستار العلمانية والتنوير والحداثة يحقرون تراثهم وحضارتهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى السخرية من الرموز الإسلامية، والتشكيك فى الآيات القرآنية، والسنة النبوية المطهرة، والشعائر الدينية كالصوم وذبح الأضاحى، وهى ” إسلاموفوبيا محلية ” تؤذى مشاعر مواطنيهم، وتحتاج إلى علاج ومواجهة، حفاظا على تماسك المجتمعات واستقرارها.
وقد تصاعدت حملات ” الإسلاموفوبيا المحلية ” هذه حتى بلغت التنفير من الأذان والدعوة لإلغائه، والتشكيك فى رواة الأحاديث النبوية، وفى جمع المصحف الشريف، وترتيب السور والآيات، وإنكار السنة، والتهكم على الأحاديث النبوية، واتهام الصحابة بأنهم ” القتلة الأوائل “، والهجوم على المؤسسة الدينية الأعلى وشيخها الجليل، وفى المقابل يجرى الاحتفاء بأى خروج على الثوابت الدينية والتقاليد والأعراف والأنساق الأخلاقية التى يعيشها المجتمع الإسلامى، وكلما كان الخروج فظا غليظا كان صوت الاحتفاء به عاليا.
وهؤلاء المصابون بـ ” الإسلاموفوبيا ” فى بلاد الإسلام، المدعومون من الغرب، لم يعد لديهم وازع وطنى أو دينى أو إنسانى يمنعهم من اختراق الخصوصية الدينية للإسلام فى أرضه، فصاروا يجاهرون بربط الإسلام بالتخلف، وربط الثقافة الوطنية الإسلامية بالجمود والرجعية، وابتداع علاقة تناقض بين الإسلام والحياة المعاصرة، لإحداث قطيعة تامة بين الشعب وتراثه، وإشاعة أن التمسك بالموروث الثقافى الإسلامى يعنى البقاء على التخلف والجهل والفقر والمرض.