أن الطاقات الاقتصادية للدول الناشطة دوليًا، هي الوقود الضروري لتشغيل محركاتها الدبلوماسية على الساحة العالمية، سعيًا لتقوية النفوذ وتأمين المصالح على أنواعها. وهنا نجد ضرورة للإشارة إلى أن أزمة (covid-19) تمكّنت من تسديد ضربات مؤلمة للنظام، لكنها لم تسقطه، بدليل أن التوازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي كانت سائدة قبيل الجائحة، وموازين القوى بين الدول المؤثرة في بنيان هذا النظام، لم تطرأ عليها تغييرات جذرية، بالرغم من التصدعات الناجمة عن آثار الأزمة الكارثية على الاقتصاد العالمي؛
فالولايات المتحدة ما زالت تتربع على عرش قيادة العالم، أما الصين، الدولة الثانية اقتصاديًا، فقد باتت تجسد منافسًا شرسًا وطامحًا لإزاحة أميركا عن زعامة العالم. ولذلك، نعتقد بأن الحديث عن سقوط النظام الدولي الحالي، المشيدة أساساته منذ العام 1945، وصولًا إلى نهاية الحرب الباردة في العام 1990، بضربة قاضية من مارد اسمه “كورونا”،
هو أمرٌ سابقٌ لأوانه، ولا يستند إلى وقائع علمية ملموسة. لقد نجحت الجائحة في تقزيم نفوذ المسافات وسطوة الجغرافيا إلى الحد الأدنى، لكنها لم تلغ أثر التاريخ والذاكرة الجماعية للشعوب والأمم على مسار النظام الدولي، بأجنحته السياسية والاقتصادية والعسكرية. ما فعلته الجائحة هو أنها، على غرار ما تفعله الصراعات والحروب في توالي الأحداث، سرّعت من وتيرة ترسيخ عددٍ من الاتجاهات التي بدأت ترتسم معالمها لسنوات خلت، وفقًا للوحة جيوسياسية أعرض بعض ملامحها كالآتي:
1.تراجع حصة الولايات المتحدة من الثروة الاقتصادية العالمية، وما يرافقها من تراجع قدرتها على التحكم في عمل المنظمات الدولية والإقليمية وقراراتها. ولكن التعويض عن هذا الوضع يكمن في فائض القوة الناعمة الذي يمتلكه هذا البلد، عبر التقدم العلمي والبشري في مجالات حيوية، كالتعليم والصحة وتكنولوجيا المعلومات. ويتجلى ما يزيد من صلابة الموقف الأميركي في العودة إلى الاعتماد على قوة الدبلوماسية الأميركية، من خلال السعي إلى تمتين التحالفات “الغربية”، في إطار العودة إلى الدبلوماسية المتعددة الأطراف أو التعددية (multilateralism) مع الدول التي تربطها بها علاقات وثيقة، كبريطانيا والاتحاد الأوروبي واليابان وأستراليا والهند.
وفي السياق عينه، نعتقد أن إدارة الرئيس جو بايدن مضطرة، كما فعلت إدارات سابقة، إلى محاولة إيجاد إجابة أولية عن السؤال الآتي: هل من المصلحة الأميركية التصدي لإدارة شؤون العالم أم أن الأفضل الانكفاء؟ لطالما عكست تلك الإشكالية تصارع مكونات السياسة الخارجية الأميركية حول وجهتها نحو الانغلاق على الذات وعدم الانخراط الحقيقي في شؤون العالم، كما كان سائدًا قبل هجوم pearl harbor في العام 1941 (شنّت اليابان هذا الهجوم على الولايات المتحدة التي دخلت على إثره الحرب العالمية الثانية)
، ومن خلال الشعار الذي رفعه الرئيس السابق ترامب “أميركا أولًا”، وطبقه عبر نموذج الدبلوماسية الانكفائية، من خلال الانسحاب من الاتفاقية النووية مع إيران، ومن اتفاقية المناخ في باريس، ومن منظمة الصحة العالمية. وعلى الرغم من أن التاريخ الدبلوماسي قد لا يكون رحيمًا بإرث ترامب، فإنه يحسب له أنه قد يكون أول رئيس دولة في العالم استخدم آلة التواصل الاجتماعي أو دبلوماسية ” twitter”، بغية الإعلان الفوري، الذي ينتشر في لحظات في أنحاء المعمورة، عن قرارات أو تدابير اقتصادية، كان من شأنها أن تؤدي إلى هبوط قيم أسهم البورصات في العالم، أو في ارتفاع أسعار النفط، وما يصاحب ذلك من خسائر بالمليارات في الاقتصاد العالمي. أما اليوم، فيبدو أننا أمام فسحة جديدة للعمل الدبلوماسي الدولي، والانخراط الأميركي المتجدد في محاولةٍ لإيجاد حلول لقضايا ساخنة، بشعار قوامه “عين على الداخل وعين على الخارج”؛ إذ يمكن وصف المقاربة المعتمدة بأنه انخراط “بالقطعة” ، كما نقول بالعامية اللبنانية،
قد يفضي إلى انفراج في الملف النووي الإيراني، وإلى مزيد من التنسيق مع حلفاء واشنطن، بغية محاولة وقف التمدد الصيني بأشكاله المتعددة (وفقًا لنظرة أميركا)، ومواجهة روسيا في إدارة بعض الملفات الإقليمية، فضلًا عما تزعم واشنطن بأن موسكو تشن هجمات سيبرانية عليها. وعليه، نشهد اليوم عودة إلى دبلوماسية القوة الناعمة، المراهنة في ثناياها على قوة النموذج الأميركي المناهض لانتهاكات حقوق الإنسان وللحروب. والجدير ذكره أن ثمن الانكفاء الأميركي عن منطقة الشرق الأوسط بروز قوى إقليمية لها أجندات ومصالح متضاربة، فضلًا عن سعيها لملء الفراغ الذي ولّده تراجع “واشنطن” عن متابعة الملفات الساخنة في المنطقة.
2- الصين: أنجزت قفزات نوعية في سياستها الخارجية الاقتصادية والسياسية، ولا سيما المشاريع المنضوية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وانضمام عشرات الدول إليها. وتعميقًا لنفوذها الاقتصادي والجيوسياسي، وقعت بكين، في 27 آذار/ مارس 2021، اتفاقية تعاون إستراتيجي مع طهران، لمدة 25 عامًا، فيما يمكن اعتباره ترسيخ الاقتصاد كمكون له الصدارة في السياسة الخارجية للدول الكبرى. ويعتبر “محمد باقر قاليباف”، الرئيس الحالي للبرلمان الإيراني، أن توقيع هذه الاتفاقية يعدّ عنصرًا مهمًا في تنامي قوة إيران، في إطار التوجه نحو آسيا وآسيا الوسطى، للوصول إلى مقاربة متوازنة تتمحور حول الاقتصاد في السياسة الخارجية
. ويخطئ من يظن أن تلك المبادرة الكونية التي أطلقتها “بكين” لا تنطوي إلا على محتوى اقتصادي؛ بل هي إستراتيجية سياسية بامتياز، ولكن حرفيتها تنبع من كون صانع المبادرة أخفى مكونها غير الاقتصادي وطموحات النفوذ السياسي، عن شكلها الخارجي الذي بدا وكأنه باقة جميلة من المشاريع الاقتصادية العملاقة،
تسرّ الناظر إليها بالحوافز والمكاسب المالية التي ستنجم عنها. وفي السياق عينه، سيكون على الصين أن تبرهن للعالم بأن نموذج التنمية الذي تروج له، القائم على إعلاء شأن التعاون الاقتصادي بين الدول والمجموعات الإقليمية، وعزل المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية عن هذا النموذج، قابل للتصدير والتطبيق خارج أراضيها. لقد نجحت الصين في توسيع نفوذها من دون إطلاق رصاصة واحدة، وذلك إنجاز بكل المقاييس. وسيفسح التوجه الأميركي الناشئ، بمواجهة روسيا والصين، المجال للقوى الإقليمية الطامحة للعب أدوار أكبر في الساحة الدولية.
3-تعد تجربة الاتحاد الأوروبي من الأنجح في العالم، في الاندماج الاقتصادي بين مجموعة دول وطنية. ويكمن التحدي الرئيس الذي ينبغي على الاتحاد تجاوزه، في إرساء استراتيجية متكاملة، سياسية واقتصادية واجتماعية، تعمل على تجاوز الأضرار التي خلفتها إدارة كورونا على البنيان المؤسساتي للاتحاد، ومظاهر الاعتراض الشديد الذي عبّرت عنه دول، كإسبانيا وإيطاليا وغيرها، احتجاجًا على تقاعس مؤسسات الاتحاد عن مساعدتها، في عز المحنة التي مرت بها في مواجهة الجائحة.
وتبقى معضلة الاتحاد الأوروبي، على الصعيد الدولي، في أنه أخفق في بلورة استراتيجية واضحة من شأنها تعبيد الطريق من أجل التوصل إلى حلول جذرية لجملة قضايا سياسية ساخنة؛ كالصراع العربي-الإسرائيلي، وسورية، والعراق، وليبيا. وقد بدا السقف الأعلى لبروكسل، في هذا المجال، إطلاق المواقف والتصريحات الكلامية التي “لا تُسمن ولا تُغني من جوع”. أما النجاح الرئيسي للاتحاد الأوروبي، فاقتصر على تمكنه من إرساء مجموعة قواعد دولية تعزز التعاون الاقتصادي.
4-بالنسبة إلى الدور الروسي، فسيكون تحت مجهر المتابعة عن كثب، من أجل رصد مدى تمكن هذا البلد من لملمة آثار الخسائر الناجمة عن انخفاض أسعار النفط، وتراجع الصادرات. كما طرأت عوامل ضغط إضافي على القيادة السياسية الروسية، تجلت في سياسات العقوبات على مسؤولين روس، بدأت بتطبيقها “واشنطن” و”بروكسل”، ودخلنا في دوامة الإجراءات والإجراءات المضادة.
وستشكل تلك النيران غير الصديقة التي تتعرض لها موسكو، اختبارًا، بالحديد والنار، لعزم روسيا ورغبتها بالعودة بقوة إلى الساحة الدولية، ونجاحها في لعب أدوار مؤثرة في ليبيا واليمن والقضية الفلسطينية، فضلًا عن تثمير إنجازاتها الجيوسياسية في سورية وأوكرانيا، وأخيرًا في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان.
5-أظهرت أزمة كورونا، بصورة جلية، الحاجة إلى إعادة النظر بدور الدولة وتدخلها في الحياة الاقتصادية الداخلية، مترافقة مع عودة الحديث عن إحياء مظاهر دولة الرفاه الاجتماعي التي توفر الخدمات الأساسية للمجتمع، كالطبابة والتعليم وضمان الشيخوخة والعمل. والمثال الأوضح لهذا التوجه يظهر عبر تهافت معظم دول العالم لشراء اللقاحات المضادة لكورونا، وتقديمها مجانًا لشعوبها. وبرأينا أن إعادة النظر هذه بدور الدولة تتزامن وضرورة وضع ضوابط للنموذج الاقتصادي الأكثر شيوعًا في العالم، وليس بالضرورة الأكثر نجاحًا، أي النظام الليبرالي المبني على اقتصاد السوق.
وهو ما يستوجب إجراء نقاش معمق حول العولمة وأخواتها، وضرورة تأمين خط سيرها في إطار ما يفيد في تعزيز مفهوم الترابط interdependence وتعزيز التبادل التجاري بين الدول. ويقتضي القول أن أسوأ ما قد تفضي إليه هذه الجائحة هو تعزيز التيارات والأحزاب الشعبوية والقومية المتطرفة، وما ينجم عن ذلك من مطالبات بمزيد من السياسات الحمائية التي ستؤدي إلى التقوقع داخل حدود الدولة الوطنية، والخاسر الأكبر سيكون التعاون الدولي والنشاط الدبلوماسي بصوره المتعددة.