عرضت خلال الأسبوعين الماضيين ملخصا للمنهج الذى وضعه المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة ـ رحمه الله ـ لنقد التراث، من خلال كتابه ” تهذيب التراث الإسلامى”، والتأكيد على أن مراجعة التراث وتهذيبه منهج قديم وأصيل، عرفه أسلافنا وطبقوه في مختلف فنون التراث، وقدمت نماذج لهذا التهذيب على مر العصور، ما يعنى أن أسلافنا لم ينظروا إلى الاجتهاد البشرى فى التراث الإسلامى على أنه مقدس، ولم يتهيبوه لمجرد أنه قديم.
واليوم أقدم رؤية الدكتور عمارة فيما يتعلق بحاجتنا إلى (نهضة في تهذيب التراث)، من أجل ترشيد فكرنا الإسلامي المعاصر، وأعرض لبعض النماذج التى رآها ملحة فى مجالات ثلاث؛ التفسير وعلم الكلام والتصوف.
يقول د. محمد عمارة إن الكثير من كتب التفسير القديمة للقرآن الكريم تسربت إليها بعض الإسرائيليات المليئة بالقصص الخرافية، سواء في الحديث عن التواريخ القديمة للأمم السابقة، أو أخبار بدء الخلق، أو الحديث عن الغيبيات، أو عن الفتن والملاحم التي ستأتي في آخر الزمان.
وإذا كان الإسلام قد تفرد بالاقتصاد في الحديث عن الغيبيات كي يدفع العقل المسلم للتركيز على الإبداع في عالم الشهادة، فإن هذه الإسرائيليات قد حرفت العقل المسلم عن رسالته، وأغرقته في طوفان من القصص الخرافية التي لا أصل لها في الوحي القرآني، ولا ذكر لها فيما تواتر أو صح من الأحاديث النبوية.
وقد كتبت دراسات نفيسة حول قضية الإسرائيليات في كتب التفسير القرآني، وضرورة تنقية هذه الكتب من هذه الإسرائيليات، مثل كتابات المرحوم الشيخ محمد حسين الذهبي [الإسرائيليات في التفسير والحديث]، و[الاتجاهات المنحرفة في التفسير: دوافعها ودفعها].
ولما كان القرآن الكريم معجزة عقلية تستحث العقل ليتفكر ويتدبر ويتذكر، وكان الدين الإسلامي هو علم بالمعنى الدقيق لمصطلح العلم، أي ابن الدليل والعقل والمنطق، وبعبارة الإمام مالك بن أنس: «فإن ديننا هذا علم، وإن علمنا هذا دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم»، فإن تهذيب كتب التفسير القديمة وتنقيتها من القصص الخرافية أمر واجب لجعل هذه التفاسير متسقة مع العقلانية القرآنية، وتخليص قراء هذه التفاسير من (المنهج الخرافي)، ووصلهم بالمنهج العلمي والعقلانية المؤمنة، التي بدونها لا سبيل إلى التقدم والنهوض.
ومع ذلك يشترط د. عمارة بقاء مخطوطات التفاسير وطبعاتها القديمة على حالها، كمصادر لدراسات الباحثين والمتخصصين الذين يدرسونها في سياقاتها التاريخية، ويبحثون عن العلل التي أَدخلتْ عليها هذه الإسرائيليات، وليس هذا بالأمر الغريب أو الجديد، فلدينا في دور الكتب تراث ضخم في السحر والشعوذة وأسرار الحروف والأرقام والتنجيم، لا يطلع عليه إلا الباحثون الدارسون الذين يقدمون لدور الكتب شهادات جامعاتهم التى تبرر حاجتهم الأكاديمية إلى الاطلاع على هذا التراث.
وفي علم العقيدة الإسلامية – علم الكلام – نجد الكثير من الجدل الذي دار بين علماء الكلام في الإلهيات والغيبيات التي اقتصد الإسلام في الحديث عنها لعجز العقل البشري – وهو بطبيعته نسبي الإدراك ـ عن فقه حقائقها ومكنوناتها، بل ولعجز اللغة عن التعبير عن كنه هذه الحقائق، وهذا الجدل تضخمت به كثير من كتب الفرق والمذاهب الكلامية، بالإضافة إلى ما تسرب إليها من المجادلات والمناظرات التي دارت بين علماء الكلام وبين أصحاب المذاهب والديانات غير الإسلامية – خاصة مذاهب الفرس والهنود وفلاسفة الغنوصية والباطنية.
وقد تم توظيف هذه المجادلات فى ميدان الصراع الفكري والسياسى وإثارة التعصب المذهبى لتمزيق الصف الإسلامي، حتى قال الإمام أبو حامد الغزالي: إنك قد تعرض المسألة على الأشعري فيوافقك عليها، فإذا قلت له إنها رأي المعتزلة عاد فرفضها، بعد أن كان قد قبلها، والعكس صحيح.
وعندما كتب الشيخ محمد عبده كتابه الصغير النفيس [رسالة التوحيد] وهذب فيه علم العقيدة الإسلامية، ونقاها من شغب المتكلمين القدماء الذين افتعلت خلافاتهم المذهبية الكثير من المسائل الخلافية المتوهمة، اكتشفنا المساحة الواسعة للأرض المشتركة بين جميع هذه المذاهب في العقائد والتصورات والمسائل التي ملأ الخلاف حولها كتب علم الكلام القديم.
لذلك، فإننا بحاجة إلى تهذيب تراثنا في علم الكلام، تهذيبا يستخلص العقائد التي جاء بها الوحي الإلهي المعصوم في النصوص قطعية الدلالة والثبوت، وتقديم هذا التراث إلى جمهور الأمة، مع بقاء مخطوطات ذلك التراث وطبعاتها القديمة وقفا على أهل الاختصاص من الباحثين والعلماء، وقد سبق للإمام الغزالي أن مارس هذا التهذيب لعلم العقائد الإسلامية فى كتبه: [الاقتصاد في الاعتقاد]، و[إلجام العوام عن علم الكلام] ، [المضنون به على غير أهله]، فميز بين ما هو ضروري للجمهور وما هو وقف على أهل الاختصاص، وكذلك صنع ابن رشد مع التأويل للآيات المتشابهات.
وهناك أيضا تراث التصوف الذى تسربت إلى كثير من كتبه ركامات من الخرافة والشعوذة والأساطير التي سيقت تحت عناوين (الخوارق) و(الكرامات)، مع أن أهل التصوف الحق أجمعواعلى الامتناع عن إثبات شيء من هذه الخوارق والكرامات في كتب الجمهور، وعلى تحريم التحدي بهذه الكرامات، أو طلب التصديق بها لدى الجمهور، كما هو الحال مع معجزات الأنبياء والمرسلين، وذكر الإمام محمد عبده أن الكثير مما نسب إلى الإمام الشعراني في كتابه (الطبقات) لا علاقة للشعراني به، وإنما هو مدسوس عليه من الذين أرادوا التكسب به لدى عوام الناس.
كما دخل إلينا التصوف الباطني، الوافد من التراث الغنوصي – اليوناني والهندي – وهو تراث غريب عن الوسطية الإسلامية التي جمعت بين العقل والنقل، وبين الشريعة والحقيقة.
لذلك كان تراثنا الصوفي – هو الآخر – في حاجة إلى تهذيب يقدم لجمهور الأمة معالم التصوف الشرعي، مع بقاء مخطوطات هذا التراث وطبعاته القديمة وقفا على الباحثين والدارسين المتخصصين.