أكبر مواجهة عسكرية منذ 1945.. فتحت الطريق أمام تزايد التوسع الغربي شرقًا
ضم جورجيا وأوكرانيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي والناتو في المستقبل
الإمبراطوريات لا تنتهي بلا صراع .. وانهيار الاتحاد السوفيتي لم يكن نهاية القصة
شراكة أوروبية أمريكية..لمنع عودة روسيا و”فرملة” صعود الصين
الأوروبيون يتهمون الولايات المتحدة بالتربح من الحرب على حسابهم..!!
تقرير يكتبه
عبد المنعم السلموني
محاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعث الإمبراطورية الروسية، بإعادة احتلال أوكرانيا، فتحت الباب أمام ظهور أوروبا ما بعد الإمبراطوريات. أي أوروبا التي لم يعد لديها أي إمبراطوريات يهيمن عليها شعب واحد أو أمة واحدة، سواء على الأرض أو عبر البحار وهو وضع لم تشهده القارة من قبل.
ومن المفارقات، أن تأمين مستقبل ما بعد الإمبراطورية والوقوف في وجه الغزو الروسي، يستوجب على الاتحاد الأوروبي أن يكتسب بعض خصائص الإمبراطورية. عليه أن يتمتع بدرجة كافية من الوحدة، والسلطة المركزية، واتخاذ القرار الفعال للدفاع عن المصالح والقيم المشتركة للأوروبيين. وإذا كان لكل دولة عضو حق النقض على قرارات حيوية، فسيتعثر الاتحاد داخليًا وخارجيًا.
في مقالة أكاديمية بعدد مايو/يونية من دورية فورين أفيرز، يقول تيموثي جارتون آش، إن الأوروبيون غير معتادين على النظر إلى أنفسهم عبر عدسة الإمبراطورية، لكن القيام بذلك ربما يقدم منظورًا مضيئًا ومزعجًا. الاتحاد الأوروبي نفسه له ماضٍ استعماري. والمهندسون الأصليون -لما سيصبح الاتحاد الأوروبي -اعتبروا المستعمرات الأفريقية للدول الأعضاء جزءًا لا يتجزأ من المشروع الأوروبي. حتى عندما كانت الدول الأوروبية تخوض حروبًا وحشية للدفاع عن مستعمراتها، تحدث المسؤولون بحماس عن “أوروأفريقيا”، حيث تعاملوا مع ممتلكات دول ما وراء البحار على أنها تنتمي للمجموعة الاقتصادية الأوروبية الجديدة. وقاتلت البرتغال للاحتفاظ بالسيطرة على أنجولا وموزمبيق أوائل السبعينيات.
وبالنسبة لمن درس تاريخ الإمبراطوريات فهو يعرف أن انهيار الاتحاد السوفيتي لم يكن نهاية القصة، فعادة لا تستسلم الإمبراطوريات بدون حروب، مثلما أظهر البريطانيون، والفرنسيون، والبرتغاليون، و”الأوروأفريقيون” بعد عام 1945.
وبينما سعت موسكو لاستعادة بعض أراضيها الاستعمارية المفقودة، كان الاتحاد الأوروبي منشغلاً بعمليتين من عمليات الانتقال الأوروبية المميزة في القرن العشرين من الإمبراطوريات إلى الدول.
بدأ رد روسيا الإمبراطوري الجديد بإعلان بوتين المواجهة مع الغرب في مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2007، حيث شجب النظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة. تبع ذلك استيلاؤه المسلح على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا في عام 2008. وتصاعد الأمر مع ضم شبه جزيرة القرم وغزو شرق أوكرانيا عام 2014، فاندلعت حرب روسية أوكرانية، استمرت تسع سنوات. كان عام 2014 نقطة التحول التي فشل الغرب في الانتباه إليها. ويضيف آش أنه لا أحد يعرف ما كان يمكن أن يحدث لو كان رد فعل الغرب أكثر قوة، وذلك بتقليل اعتماده في مجال الطاقة على روسيا، وتزويد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة، وإصدار رسالة أكثر قوة إلى موسكو. ولكن لا شك في أن مثل هذا المسار كان سيضع أوكرانيا والغرب في وضع أفضل عام 2022.
في قمة الناتو في أبريل 2008 ببوخارست، أرادت إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بدء استعدادات جادة لضم جورجيا وأوكرانيا للناتو، لكن الدول الأوروبية الرئيسية، ومنها فرنسا وألمانيا، عارضت ذلك بشدة. وكحل وسط، أعلن البيان الختامي للقمة أن جورجيا وأوكرانيا “ستصبحان عضوين في الناتو في المستقبل”. تسبب ذلك في تزايد شعور بوتين بالتهديد الذي تقوده الولايات المتحدة لبقايا الإمبراطورية الروسية. توغلت دبابات بوتين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بعد أربعة أشهر فقط. تلا ذلك توسعات حلف الناتو في دول جنوب شرق أوروبا الصغيرة مثل ألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، فارتفع عدد أعضاء الحلف إلى 30 عضوًا، لكن هذه الإضافات بالكاد غيرت ميزان القوى في أوروبا الشرقية.
في الوقت نفسه، توقف توسع الاتحاد الأوروبي، ليس بسبب عودة روسيا ولكن بسبب “أعباء التوسيع” بعد قبول أعضاء جدد من وسط وشرق أوروبا في عامي 2004 و2007، إلى جانب تأثير التحديات الرئيسية الأخرى على الاتحاد الأوروبي.
بتفسير مقولة هيراقليطس: “الحرب هي أبو الجميع”، فإن أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945 فتحت الطريق أمام توسع أكبر للغرب شرقًا. في أواخر فبراير 2022، عشية الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يزال يعرب عن تحفظاته بشأن توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل غرب البلقان. أيد المستشار الألماني أولاف شولتز توسع غرب البلقان لكنه أراد أن يرسم الخط عند ذلك. لكن، عندما قاومت أوكرانيا محاولة روسيا السيطرة على البلاد بأكملها، وضع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الاتحاد الأوروبي نصب عينيه. ومن خلال الأحداث المحفزة للثورة البرتقالية عام 2004 واحتجاجات الميدان الأوروبي في كييف عام 2014، تطور الرأي العام الأوكراني وأظهرت رئاسة زيلنسكي توجهاً أوروبياً قوياً. وطلب مرارًا ليس فقط الأسلحة والعقوبات ولكن أيضًا عضوية الاتحاد الأوروبي.
بحلول يونيو 2022، كان ماكرون وشولتز يقفان مع زيلينسكي في كييف، إلى جانب رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي والرئيس الروماني كلاوس يوهانيس. أعلن الزوار الأربعة أنهم يؤيدون قبول الاتحاد الأوروبي أوكرانيا كمرشح للعضوية. في نفس الشهر، اتضح موقف الاتحاد الأوروبي رسميًا، ووافق على مولدوفا كمرشح، وأرسل إشارة مشجعة لجورجيا بأن الاتحاد قد يمنحها نفس الوضع، مستقبلًا.
لم يقدم الناتو أي تعهد رسمي لأوكرانيا، ولكن نظرًا لدعم الدول أعضاء الناتو للدفاع عن أوكرانيا -والذي ترمز إليه بشكل كبير زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لكييف في وقت سابق من هذا العام -يصعب الآن تخيل أن الحرب يمكن أن تنتهي دون التزامات أمنية واقعية، إن لم تكن قانونية، من الولايات المتحدة وأعضاء الناتو الآخرين. في غضون ذلك، دفعت الحرب السويد وفنلندا للانضمام إلى الناتو. جلبت الحرب أيضًا الاتحاد الأوروبي والناتو إلى شراكة أكثر وضوحًا باعتبارهما، الذراعين القويتين للغرب. على المدى الطويل، ستكون عضوية الناتو لجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا مكملاً منطقيًا لعضوية الاتحاد الأوروبي والضمانة الدائمة لتلك الدول ضد تجدد الانتقام الروسي.
قد يستغرق تحقيق هذا التوسيع المزدوج حتى ثلاثينيات القرن الحالي، وإذا حدث ذلك بالفعل، فسيمثل خطوة عملاقة أخرى نحو الهدف المحدد في خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش عام 1989: أوروبا كاملة وحرة. ومع اكتمال التوسع باتجاه الشرق، سيتم تجميع المزيد من أوروبا الجغرافية والتاريخية والثقافية في مجموعة واحدة مترابطة من المجتمعات السياسية والاقتصادية والأمنية.
تثير هذه الرؤية طويلة المدى للاتحاد الأوروبي الموسع، في شراكة إستراتيجية مع الناتو، سؤالين كبيرين على الفور. ماذا عن روسيا؟ وكيف يمكن أن يكون هناك اتحاد أوروبي مستدام من 36 دولة، سيصبح 40 دولة عضوًا؟ من الصعب معالجة السؤال الأول دون معرفة الشكل الذي ستبدو عليه روسيا ما بعد بوتين، ويرى آش أن جزءًا كبيرًا من الإجابة سيعتمد على البيئة الجيوسياسية الخارجية التي نشأت في الغرب والجنوب من روسيا. هذه البيئة عرضة للتشكيك في تشكيلها من قبل صانعي السياسة الغربيين، بحيث يتراجع معها التطور الداخلي لروسيا التي تظل مسلحة نووياً.
في الخطاب الذي ألقاه شولتز في براغ أغسطس الماضي. أعاد التأكيد على التزامه الجديد بتوسيع الاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق -بما في ذلك غرب البلقان، ومولدوفا، وأوكرانيا، وجورجيا -وأصر على أن هذا يتطلب مزيدًا من تعميق الاتحاد. وإلا، فلن يكون الاتحاد الأوروبي مجتمعًا سياسيًا متماسكًا وفعالًا. دعا شولتز إلى مزيد من “التصويت بالأغلبية المؤهلة”، وهو إجراء لصنع القرار في الاتحاد الأوروبي يتطلب موافقة 55% من الدول الأعضاء، والتي تمثل 65% على الأقل من سكان الكتلة. ستضمن هذه العملية أن دولة عضوًا واحدة، مثل المجر بقيادة فيكتور أوربان، لن يصبح بمقدورها استخدام حق النقض ضد جولة أخرى من العقوبات على روسيا أو غيرها من الإجراءات.
لكن الموروثات والذكريات الإمبراطورية للقوى الاستعمارية الأوروبية الغربية السابقة تعيق العمل الجماعي الأوروبي بطرق أخرى. كان لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أسباب عديدة، ومن بينها الهوس بالسيادة القانونية الصارمة تعود إلى القانون الذي سن انفصال الملك هنري الثامن عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، مدعيًا أن “عالم إنجلترا هذا هو إمبراطورية. ” لعبت ذكرى “الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس” دورًا في الاعتقاد الخاطئ بأن المملكة المتحدة ستكون على ما يرام بمفردها.
وكما أوضحت الحرب في أوكرانيا، فإن أوروبا لا تزال تعتمد في أمنها على الولايات المتحدة. يتحدث ماكرون وشولتز كثيرًا عن الحاجة إلى “السيادة الأوروبية”، ولكن فيما يتعلق بالدعم العسكري لأوكرانيا، لم يكن شولتز مستعدًا لإرسال عربات القتال المدرعة والدبابات ما لم تفعل الولايات المتحدة ذلك، أيضاً. إنه شكل غريب من السيادة. لقد حفزت الحرب بالتأكيد التفكير والعمل الأوروبيين في مجال الدفاع. والتزم شولتز بزيادة مستدامة في الإنفاق الدفاعي الألماني والاستعداد العسكري. والتعامل الألماني مع البعد العسكري للقوة على محمل الجد لن يكون بالأمر الهين في التاريخ الأوروبي الحديث.
كذلك تخطط بولندا لبناء أكبر جيش داخل الاتحاد الأوروبي، وسيكون لأوكرانيا المنتصرة أكبر قوة مسلحة وأكثرها قوة في أوروبا خارج روسيا. لدى الاتحاد الأوروبي مرفق سلام، أنفق خلال السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا حوالي 3.8 مليار دولار للمشاركة في تمويل إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا.
هنا، يأتي الاحتمال المفاجئ الذي تكشفه حرب أوكرانيا. الاتحاد الأوروبي باعتباره إمبراطورية ما بعد الإمبراطورية، يدخل في شراكة إستراتيجية مع إمبراطورية أمريكا ما بعد الإمبراطورية، لمنع عودة إمبراطورية روسية متدهورة وتقييد الإمبراطورية الصينية الصاعدة.
على جانب آخر، يقول بيتر كونيج، وهو محلل جيوسياسي وخبير اقتصادي أول سابق في البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، إن الاقتصاد الأوروبي على حافة الهاوية. وإن لدى صندوق النقد الدولي تنبؤات رهيبة لعام 2023 وللمستقبل المنظور. فهو يذكر -خطأ -الحرب في أوكرانيا باعتبارها مسؤولة عن التدهور الاقتصادي الأوروبي، من خلال التسبب في نقص الطاقة ونقص الغذاء وارتفاع الأسعار وزيادة أسعار الفائدة وغيرها.
يضيف كونيج قي مقابلة مع قناة (برس تي في)، نشرها موقع جلوبال ريسيرش، إن صندوق النقد الدولي لا يميز بين ما يتم استحداثه بشكل مصطنع وما يمكن أن يكون تقلبات اقتصادية طبيعية. وهو يستشهد بانعدام نمو الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد البريطاني، وأن لندن خصصت 2.3 مليار جنيه إسترليني كمساعدات عسكرية لأوكرانيا، بينما27% من أطفال بريطانيا يعيشون في فقر مدقع، حيث تعاني المملكة المتحدة أعلى معدل تضخم في أوروبا الغربية، إلخ.
ويشير إلى انهيار الآلة الاقتصادية الألمانية، وأزمة الطاقة الناتجة عن حرب أوكرانيا، وعوائق سلسلة التوريد، وشيخوخة القوى العاملة، ونهاية عهد التصنيع الذي يركز على التصدير في ألمانيا ومساعداتها لأوكرانيا بـ 14.2 مليار دولار. ولا يختلف الوضع في فرنسا عن غيرها من الدول الأوروبية.
رغم ذلك، تتستفيد الولايات المتحدة من هذه الحرب فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي وأوروبا ككل. يشعر كبار المسؤولين الأوروبيين بالغضب من إدارة جو بايدن ويتهمون الأمريكيين بجني ثروة من الحرب، بينما تعاني دول الاتحاد، ويقولون إن أوروبا مجبرة على اتباع الأوامر الأمريكية بشأن “معاقبة” روسيا وتزويد أوكرانيا بالمال والأسلحة التي يتحمل ثمنها دافعو الضرائب الأوروبيون.
ويقول إن ما يحدث في أوروبا، باختصار، هو انتحار، وإنها تنتحر عن طيب خاطر اقتصاديًا.
يضيف: عندما أقول “أوروبا”، فأنا لا أشير إلى شعوب أوروبا. إنهم مستاءون. وهذا أحد أسباب تواجدهم في الشوارع أو الإضرابات، من فرنسا إلى ألمانيا، ومن إيطاليا إلى المملكة المتحدة إلى اليونان وأكثر من ذلك.
ترسل أوروبا عشرات المليارات من الدولارات إلى أوكرانيا على شكل أسلحة أو ما يسمى “دعم الميزانية”. وينتهي بعض دعم الميزانية في جيوب زيلينسكي ورفاقه، حسبما كشفت وسائل الإعلام العالمية مؤخرًا. اختلس زيلينسكي ورفاقه ما لا يقل عن 400 مليون دولار أمريكي من أموال المساعدات وربما أكثر.
فقط تخيل أن روسيا ستبني قواعد عسكرية في المكسيك أو أمريكا الوسطى. لا حاجة للحديث عن العواقب.
وفي ضوء ما قاله كونيج، وجارتن آش، هل يظل التماسك الغربي على حاله، أم أن الأيام والسنون لا تزال حبلى بالمزيد من الأحداث والتطورات، سواء بالنسبة لأوروبا أو للناتو؟؟