يقول السائل:
ورد في سورة القصص {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (القصص:٣٠)،
وفي نفس السورة {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (القصص:٤٤)،
والسؤال (كما جاء): كيف يتأتى أن يكون الأيمن هو نفسه جهة الغرب؟ والمعلوم أن اليمين مقابل للشرق لا الغرب.
بَادِئَ ذِي بَدْء، نسوق بعض المعلومات الهامة:
جرت أحداث الآيتين في أثناء رحلة عودة سيدنا موسى -عليه السلام- بعد أن انتهت فترة مكوثه في مدينة ”مدين“ (بداية
بلقاء المرأتين عند ماء مدين، ثم لقاء أبيهما وزواجه من إحداهما، ثم وفائه بعدد سنين معين في العمل كأجير عنده)، سار بأهله قاصدًا مصر..
تقع مدينة ”مدين“ بالقرب من مدينة ”البدع“ التابعة لمنطقة ”تبوك“ الواقعة في شمال غرب المملكة العربية السعودية، بالقرب من خليج العقبة شرق البحر الأحمر..
سيدنا موسى -عليه السلام- لو كان يملك الوسيلة البحرية المناسبة لعبر خليج العقبة وأصبح في سيناء، لكنه اتخذ مسارًا بريًّا، بمعنى أنه دار حول خليج العقبة، حيث سار شمالا، ثم كان عليه أن يسير غربا ليعود إلى منف داخل مصر..
كما أورد أسيادنا المفسرين، تاه سيدنا موسى -عليه السلام- في رحلة العودة، هذا يعني أنه بعد أن دار حول خليج العقبة اتجه جنوبا بدلا من الاتجاه ناحية الغرب؛ ولذلك فقد مر بجبل الطور الواقع في جنوب سيناء..
سيدنا موسى -عليه السلام- في رحلة عودته لم يسر باتجاه مصر طول الوقت كما تخيل البعض، لكنه سار شمالا وكانت مصر على يساره، وسار غربًا وكانت مصر في قبالته، وسار جنوبا وكانت مصر عن يمينه، كما في الصورة..
وبالعودة إلى السؤال، نقول أن به بعض المغالطات التي -ربما- تكون مقصودة لإحداث نوع من البلبلة (العلم عند الله):
لقد جعل السائل المنظور النسبي في الآيتين واحدًا، على الرغم من أن:
الآية الأولى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} تتحدث عن المنظور نسبة إلى واد طوى المقدس {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (طه:١٢)..
والآية الثانية {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} تتحدث عن الأمر نسبة إلى جبل الطور {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (مريم:٥٢،٥١).
كلمة الأيمن في (شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ) ليست نفسها اليمين الجغرافي الذي يعني الشرق عند النظر ناحية الشمال، بل تعني جانبًا أيمن بالنسبة لشيء آخر..
كذلك كلمة الغربي من (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) لا تعني جهة الغرب الجغرافي المطلق، بل تعني الجهة الغربية لشيء ما، كما نقول مدخل المبنى هذا شرقي أو غربي، قبلي أو بحري.
ويكون المعنى المراد -إجمالًا- كما يلي:
بعد أن قضى سيدنا موسى -عليه السلام- عددًا من السنين عند صهره سار بزوجته وما (من) معه عائدًا إلى مصر، اتجه شمالا بمحاذاة خليج العقبة، بعد أن دار حول الخليج ودخل سيناء تاه هناك، لم يتجه غربًا كما وجب عليه للعودة إلى مصر، بل اتجه إلى صوب الجنوب، ودار مع الحدود الجنوبية لشبه جزيرة سناء، اتجه غربًا ثم شمالًا بمحاذاة خليج السويس..
في أثناء سيره وأهله من جنوب سيناء متجهين شمالًا، كان الليل يسدل أستارًا دجناء، تضامنت معه السماء الدنيا فلم تظهر القمر ولا نجمًا، ظلام دامس يحيط بهم، وبرد قارس ينخر عظامهم..
بعد أن تمكن النصب من زوجته وتمكنت قلة الحيلة منه، أبصر نارًا، طوق نجاة، عادت إليه عزيمته، طلب من أهله المكوث، اتجه صوب النار ليأتي بشعلة تنير ظلمتهم وتبث الدفء فيهم، ولعله يهتدي بالنار إلى الطريق الصحيح..
لم يكن يعلم أنه يسير بجوار جانب جبل الطور الأيمن (ذلك الجانب الذي يقابل جهة الغرب الجغرافي)، ويقترب من واد طوى المقدس، الواقع بجانب جبل الطور، أكمل سيره متلهفًا الوصول إلى النار..
سار باتجاه مصدر النار حتى أصبح جانب واد طوى عن يمينه، بدأت معالم ذلك المصدر تتضح له، شجرة خضراء أضاءت في أعلاها نارًا تُخرج نورًا، سمع صوتًا يأتي من يمين الشجرة يناديه، وكان حديث الله -سبحانه- معه ووحيه إليه.
اللهم صل وسلم وبارك على الحبيب والخليل والكلمة والكليم ومن هديت واصطفيت أجمعين.