عن رواية “رقص الإبل” للكاتب الكبير فتحي إمبابي
عندما كتب فتحي إمبابي رواية نهر السماء التي مثلت حقبة المماليك عام 1988، ضمنت الرواية شخصية إليا بتروفيتش الملقب بحسين أغا الأشقر المختطف من الصراعات الواقعة على حدود الصرب، بيع عبدا في الأسكندرية ليصير فيما بعد أمير حرب على الفلاحين المصريين، كأنها كانت نبوءة بما جرى في ذلك الوقت في حرب البوسنة والهرسك، وها هي رواية رقص الإبل التي نشرت في 2022 ، تتناول الصراع الذي دار بين جيش الأنصار التابع للثورة المهدية والقوات الحكومية المصرية، وكأنها تحمل في طياتها نبوءة أخرى عن الصراع الذي يدور حاليا في السودان بين قوات الدعم السريع الذي يعتمد في جزء كبير منه على القبائل المنتمية إلى دارفور غرب السودان وبين قوات الجيش السوداني الذي يتهم بأنه يضم في جنباته البنية العميقة للأصولية الدينية المتمثلة في التحالف بين الحكم السابق (عمر البشير) وحزب المؤتمر الإسلامي (الشيخ حسن الترابي)، وكأن التاريخ حلقة محكمة يصعب على شعوبنا الفكاك منها والخروج من ظلماته إلى ضوء النهار
رواية رقص الإبل (بنية النص)
ملحمة سرد يه تضم عدد كبير من الشخوص والأحداث، التاريخ غير المروي لما كان في مصر والسودان قبل قرنين من الزمان والذي بدأه محمد علي بضم السودان إلى مصر وتشكيل جيش من أبناء الشعبين، يحاول النص الإجابة عن الإشكاليات المعقدة لهويات الجماعات الساكنة حول نهر النيل ومنها الهوية المصرية التي طمستها النظم السياسية المتعاقبة، انتصارا لحقبة على الأخرى، فهل احتلت مصر السودان كما يحلو لمروجي الفتنة أن يسموها أم كانت دولة واحدة؟
أدرك محمد علي أهمية النيل منذ اللحظة الأولى، فمصر دولة زراعية؛ النيل هو سر وجودها، وفي ذلك يتفق جمال حمدان مع محمد علي (شخصية مصر) حيث النهر أساس الحضارة، مما جعل الهدف الأول لمحمد على هو حماية منابع النيل وهذا ما دفعه للتوسع جنوبا، وبلغ من عظم هذه الأهمية إن قال (محمد شريف باشا) رئيس الوزراء عندما ضغطت الإمبراطورية البريطانية على الخديوي توفيق للتخلي عن السودان أن قال مقولته الشهيرة “نحن نقبل بأن يحكمنا السودان ولا أن نتخلى عنه” وأعقب ذلك استقالته من رئاسة الوزراء
عقب هزيمة عرابي واستسلامه للإنجليز بطريقة يجب أن نقر إنها كانت مخزية، حل الخديوي الجيش المصري في سبتمبر 1882 وأحاله الي الاستيداع، ومن خلال المحاكمات التي أعقبت الهزيمة قام بنفي عدد من الضباط الشبان الذين كانوا مشاركين في الثورة العرابية إلى المديرية الاستوائية في أعالي النيل حيث كانت الراية المصرية ترفرف على امتداد النهر من المصب حتى المنابع.
في هذه الأثناء بدأ المهدي حركته التي قامت على توجهين، التوجه الأول قائم على الأصولية الدينية التي ستستقطب بالفطرة عاطفة الشعب السوداني الذي ينتمى السواد الأعظم منهم إلى الإسلام، والتوجه الثاني هو الوطنية والدفاع عن الوطن ضد الاحتلال التركي وهو توجه بالضرورة سيجد من يناصره، وبناء على نصيحة من الحكومة البريطانية أعاد الخديوي استدعاء الجيش ليكون الحملة العسكرية التي ستواجه تمرد المهدي وأرسلها تحت قيادة الجنرال البريطاني وليم هيكس إلى الخرطوم، ضمت الحملة 13 ألف جندي من (المصريين والسودانيين) جُمعوا من قُراهم بعد الهزيمة وأرسلوا في باطن السفن بروح معنوية منهارة تحت قيادة إنجليزية أوربية إلى السودان حيث فنوا عن أخرهم في معركة شيكان.
شكلت معركة شيكان واحدة من المواجهات خارج المنطق الحقيقي للتاريخ فقد جرت المعركة بين المصريين والسودانيين من أفراد الجيش المصري في جهة وأخوانهم من السودانيين التابعين لجيش المهدي في جهة أخرى -ما يستغله البعض للترويج لفكرة الاحتلال المصري للسودان-
كان الهدف من السياسة البريطانية في ذلك الوقت هو الفصل بين مصر والسودان والسيطرة لاحقا على السودان وهو ما تمكنت منه عام 1899، بينما كان هدف المهدي الزعامة والسيطرة على القبائل ونشر الفكر الأصولي إلى ربوع الدول الإسلامية
شخصيات وحكايات
على الخلفية التاريخية للنص تتناول الرواية عدد من القصص الإنسانية التي يعرج من خلالها الكاتب في مشهديه شديدة الروعة والجمال على التركيب الجغرافي والقبلي الرعوي للمجتمع السوداني -الذي ربما لم تتناوله سرديات أخرى من قبل-
- تقدم الرواية واحدة من الشخصيات الفريدة التي تنتمي إلى عالم الرعاة في بيئة نهرية شديدة الخصوبة تقع بين الأبيض عاصمة كردفان وبحر العرب أحد منابع النيل، تدور أحداث الحكاية بين التلب أبن قبيلة الحمر وابنة عمه مسك الجنة حيث نشأ معا في مراحيل الرعي، نشأت بينهما علاقة حب وقفت في طريقها العادات والتقاليد القبلية التي حجزته لأبنة عمته ست النفر قبل أن يولدا والتي تم اجباره على إتمام الزواج منها قبل أن تبلغ الحيض فيما بعد، كما قامت القبيلة بعقد صفقة مع قاضي الأبيض ومقايضة مسك الجنة بمزيد من الأراضي يتم ضمها للقبيلة، والتي مثل فراقها صدمة مروعة للتلب، طوال خمس سنوات عانى ثلاثتهما (التلب وست النفر ومسك الجنة) من التناقضات القدرية التي لم يكن لهم بها شأن، هذه القصة التراجيدية اتخذها الكاتب مدخلا ليعرج على أزمة العبودية وتجارة الرقيق التي كانت رائجة آن ذلك، كما يمكننا من خلال النظر للتحولات التي مرت بها شخصية التلب على مدار النص اعتبارها نموذجا تطبيقيا لفكرة جوستاف لبون حول مدى تأثير الجماعة على سلوك الفرد.
- محمد أحمد بن عبد الله الملقب بالمهدي قائد الثورة المهدية أبن الأفكار الأصولية الدينية والقبلية القائمة على تجارة الرقيق، شخصية ثورية متمردة تمتلك حنكة عسكرية فطرية وقدرة على القيادة، تمكن من حشد القبائل حوله، تفوق على الجنرال هيكس قامع الثورات والممثل للعسكرية الإنجليزية بغطرستها والذي قتله وهزمه شر هزيمة، فقد أباد الحملة عن أخرها في معركة شيكان كما سبق وذكرت.
- اليوزباشي محمد الفولي أبن الطبقات الاجتماعية الجديدة التي أسستها اللائحة السعيدية والتي أتاحت للفلاحين حيازة الأرضي ومن ثم امتلاكها وترقية أبناء العمد والمشايخ في سلك الضباط ما مكنهم من السفر إلى الخارج ليعودوا بعد ذلك حاملين أفكار الحداثة الأوربية والثورة الفرنسية؛ (الدستور، المجلس النيابي، التعليم، الحرية) وكل ما يرنو إلى مستقبل الدولة الحديثة، نُفي محمد الفولي مع أقرانه إلى المديرية الاستوائية، والذين مثلوا الصراع بين الرغبة والحلم بالدولة الحديثة في مواجهة الأصولية الدينية والخرافة المتمثلة في المهدية.
قدم النص شخصية الفولي نموذج يعبر عن القيم الإنسانية الكبرى للشخصية المصرية عبر تاريخها الحضاري والثقافي؛ لا مذابح للقبائل ولا مؤامرات للوقيعة بينهم، لا استرقاق ولا استعباد ولا نهب للقرى وقطعان الماشية والإبل، إنما مد الطرق وانشاء المدارس والمستشفيات ودعوة أبناء القبائل لتعلم العربية ومبادئ الحساب دون إي قصر على دخول الدين الإسلامي بل إن الأمر تجاوز إلى الارتباط والمصاهرة بين الجنود والضباط المصريين وبنات القبائل، لا تعالي، لا تمييز، بل انصهار بين الثمار (مصر) والجذور (السودان)، كما يتناول النص الدور الذي لعبه اليوزباشي في الصلح بين القبائل وارتباطه بابنة زعيم قبيلة إلياب، التي وقفت بجانبه عندما تم تسريحه من الجيش لأسباب خاطئة، وساعدته على الزراعة واستصلاح الأرض، وبعدما عاد إلى الجيش مرة أخرى، خاض واحدة من أهم المعارك التي جرت بين الجيش المصري وجيش المهدي الذي كان على رأسه تجار الرقيق وهي معركة أمادي مطلع 1885.
ويمكن لنا ببساطة شديدة وعن إيمان وثقة في الذات الجمعية للجماعة المصرية عندما نقارن بين الدور الحضاري والإنساني الذي لعبه الجيش المصري وموظفي الحكومة المصرية في السودان؛ بما قام به الأوربيين سواء من الأنجلوسكسونيون أو إسبانيا والبرتغال في الأميركتين من أعمال الإبادة للهنود الحمر في أمريكا الشمالية وتدمير الحضارات العريقة في أمريكا الجنوبية، أن نكتشف البعد الإنساني والحضاري العظيم للشخصية المصرية، حري بنا الفخر لانتمائنا لهذا الشعب العظيم. - ست النفر التي زوجوها أبن عمتها التلب وهي طفلة لم تبلغ الحلم، تستمر زيجتها منه خمس سنوات لا يقربها حتى التقت عبد المعز الإمام الشاب الذي سحر زملائه من الجيش المصري بفرط طيبته وصوته الرخيم عند تلاوته للقران، كان عبد المعز الذي لم يتجاوز الرابعة عشر يعاني من مأزق وجودي خلال سير الحملة تحت قيادة أوربية صليبية والتوجه لقتال درويش يزعم أنه يدافع عن صحيح الدين والعدل والإنصاف.
هو أحد الجنود القلائل الذين تمكنوا من النجاة من مذبحة شيكان وقد استطاع الهرب مصابا إلى بحيرة الرهد الواقعة في ولاية كردفان، ليمضي أيامه مغشيا عليه، تتعثر فيه ست النفر الشابة التي لم تتلمس طوال حياتها مشاعرالمحبة، انكبت على رعايته وعلاجه حتى نشأت بينهما قصة عشق تسوقها الفطرة الإنسانية، هذه القصة يصفها الكاتب في صورة تخيلية شديدة الجمال حيث كان يظن عبد المعز المحموم إنه في الجنة وإن ست النفر إحدى حورياتها التي ترعاه، في لقائها الأخير مع التلب ومسك الجنة على مضارب القبيلة، قدمت لهما الزاد وطلبت من زوجها حالما يستقر أن يرسل لها ما يفيد طلاقها لتشق طريقا جديدا مع عبدالمعز.
في النهاية ينبغي الإشارة إلى أن رواية رقص الإبل هي الرواية الثالثة من خماسية النهر والتي تشتمل على مجموعة من الروايات هم على التوالي (نهر السماء، عتبات الجنة، رقص الإبل، عشق، منازل الروح)، خمس أعمال روائية موضوعها الرئيسي الجماعات التي تعيش على نهر النيل، يمتد زمنها على مدار مائة عام بداية من السنوات الأخيرة لعصر المماليك حتى الاحتلال البريطاني للسودان، مكانها ضفاف نهر النيل على امتداده من المصب حتى المنابع، حيث نلتقي بجماعات بشريه تمثل كل منهم هوية خاصة بها، تلمح الخماسية تلك الهوية الجامعة العميقة بين هذه الشعوب التي شربت وأكلت وتشكلت جيناتها من خلال مياهه وطميه.