هنا القاهرة
ياصوت بلدنا .. ياصوت جهادنا
يا أعلى منبر .. للدين ومدنه
وللمعاني وللأغاني.. وللعروبة ولاتحادنا
اعلى ودوي .. ياصوت بلدنا
هذه هي الأغنية التي صدحت بها أم كلثوم في عام 64 وبالتحديد في الاحتفال ب العيد ال 30 للإذاعة المصرية.
استمعت إلى الأغنية فأعادتني إلى زمن جميل وذكرتني بأيام الصبا وسنوات الشباب وذكريات عشناها مع هذا الصندوق السحري العجيب المسمى ب الراديو الذي جمع الأسرة المصرية حوله: يعلمها ويرشدها ويسليها ويمتعها ويجيب على تساؤلاتها ويقدم لها كل ما تحتاجه وكثيرا مما تحب معرفته.
استمعت إلى صوت أم كلثوم الذي لن يتكرر بكلمات المبدع عبد الفتاح مصطفى وألحان الموهوب محمد الموجي فتأملت وتألمت.
تذكرت عصرا من الغناء والسلطنة وتيارا من المواهب وشلالا من الأصوات الرائعة وطوفانا من الشدو الجميل الذي كان الراديو وسيلتنا الأثيرة والوحيدة في الاستماع إليه والتعرف على إبداعاته وتفاصيله ومعالمه.
تذكرت أهواك والهوى هوايا وكامل الأوصاف لألفة جيله ونجم نجوم جيلنا والمتحدث الشعبي بأحلامنا: عبدالحليم حافظ وأول همسة والربيع لأستاذ كرسي العود وسفير الحزن النبيل: فريد الأطرش، وتراهني وتمرحنة وغريب يازمان لسيدة الإحساس: فايزة احمد وساكن قصادي والطير المسافر وفي وسط الطريق للصوت الدافئ: نجاة ولعبة الأيام وخليك هنا خليك واسمعوني للصوت القوي المقتحم: وردة ويومين واسافر وآخر ليلة وياحبيبتي يامصر لأميرة الإشراق والبهجة: شادية.
كما تذكرت أصواتا قوية وقادرة بقدر ماهي جميلة وعذبة أطلت علينا من هذا الاختراع المدهش، فلونت حياتنا بالشدو الجميل مثل محرم فؤاد ورمش عينه ومحمدرشدي وكعب الغزال وموال أدهم وقبلهم محمد عبدالمطلب وشفت حبيبي وكارم محمود وأمانة ياليل ومحمد قنديل وتلات سلامات وسيد المجددين محمد فوزي وشحات الغرام.
تذكرت المؤلفين العظام وفرسان الكلمة الراقية، المرهفة، المتنوعة، البديعة، التي تخطف القلب وترد الروح مثل حسين السيد ويامسافر وحدك ومرسي جميل عزيز في يوم من الأيام ومامون الشناوي وكان النسيم غنوه والنيل يغنيها وميته الحلوة تفضل تعيد فيها وعبدالرحمن الأبنودي وأحضان الحبايب وعدى النهار ومحمد حمزة وحاول تفتكرني.
تذكرت الملحنين الكبار ولكل منهم شخصيته الموسيقية المتفردة وأسلوبه الفني الفريد ومدرسته الخاصة مثل السنباطي وعبدالوهاب وبليغ والموجي وسيد مكاوي ومحمود الشريف وأحمد صدقي ومعهم حلمي بكر ومحمد سلطان وكانت وسيلة الاستماع والاستمتاع والتحليق مع إبداعات هؤلاء جميعا هي الراديو، وبالتحديد محطة أم كلثوم وبرامج ما يطلبه المستمعون.
مع الراديو وعليه، كنا نستيقظ وننام على أصوات السماء وأعلام دولة التلاوة وحناجر عصية على التقليد أو المحاكاة مثل محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد ومحمد محمود الطبلاوي و مصطفى إسماعيل ومحمود علي البنا ووكامل يوسف البهتيمي ومحمد ومحمود صديق المنشاوي ومحمود خليل الحصري وعبدالفتاح الشعشاعي ووأبو العنين شعيشع وآخرين من رواد مدرسة الخشوع والورع الذين امتازوا جميعا بحلاوة الصوت وعذوبة التلاوة حتى قيل -بحق- إن (القرآن قرأ في مصر) .
من منا ينسى مسلسلات الخامسة والربع في البرنامج العام وكنا نهيم شوقا بها وبمبدعيها ونترك مذاكرتنا لمتابعتها مع( شاي العصاري).
من منا ينسى مسلسلات فؤاد المهندس وشويكار التي كنا نتحلق حولها لحظة الإفطار في رمضان والنجوم الذين أبهروا الدنيا وشغلوا الناس وكانوا فرسان التمثيل ورواد تلوين الصوت، وهو وسيلة التعبير الوحيدة في الراديو مثل توفيق الدقن ومحمود المليجي وصلاح قابيل وسميحة ايوب والمخرجين العظام وأذكر منهم يوسف الحطاب وعبده دياب ومحمد علوان.
من منا ينسى الليلة الكبيرة وعوف الأصيل والدندرمه وعلي بابا و ( ياترى انت فين يامرزوق ) و(السلطانية) إلى آخر الصور الإذاعية التي علمتنا وغرست القيم الأصيلة والمعاني الجميلة في نفوسنا.
من منا ينسى على الماشي ل صبري سلامة ومجلة الهواء والتعليق على مباريات الدوري ل فهمي عمر وكانت هذه ال 5 دقائق أبرك وأهم وأفيد من كل ما يقدمه الإعلام الرياضي حاليا.
لا أزال أستعيد بكل الشوق والاعتزاز والحنين برنامج لغتنا الجميلة لفاروق شوشة ويرن في قلبي صوت سامية صادق في حول الأسرة البيضاء وفنجان شاي والغلط فين ومسرح المنوعات ل علي فايق زغلول وزيارة إلى مكتبة فلان ل نادية صالح وشاهد على العصر ل عمر بطيشة وأوائل الطلبة ل حازم طه وتسالي إيناس جوهر ومحيي محمود وعلى الناصية ل أمال فهمي ومحو الأمية ل عبدالبديع قمحاوي وغنوة وحدوتة ل أبلة فضيلة وكلمتين وبس ل فؤاد المهندس وإلى ربات البيوت ل صفية المهندس وأنغام من بلدنا الذي عرفنا على كنوز الفن الشعبي ونجومه الكبار محمد طه وخضرة محمد خضر وسيد حواس وغيرها من البرامج التي شحنتنا بالطاقة الإيجابية وجعلتنا نحب الحياة ونحلم بالمستقبل ونعمل من أجل تحقيق مانحلم به.
صحيح أن الراديو كان يقدم، في كثير من الأحيان، صوتا واحدا، ولكنه كان صوتا مدهشا وراقيا ومهذبا ومسكونا بالموهبة والإبداع والرقي والثقافة واحترام الضيوف ومعرفة المذيع ل حدود دوره وطبيعة رسالته فلايحاصر ضيفه كأنه متهم ولايستفزه وكأنه (بعمل عنده) ولايحقق معه كأنه وكيل نيابة ولا يضغط عليه عاطفيا وإنسانيا حتى يبكي ولا يستعرض أو يقاطع أو يفتي بغير علم وضيفه صاحب العلم في الاستديو ).
باقة شوق إلى الراديو الذي حمى ريادة مصر وحمل قوتها الناعمة إلى محيطها العربي والإقليمي وتحية حب وتقدير لهذا الوعي المبكر بالدور والرسالة ( ركن السودان) و (إذاعة فلسطين ) و ( القرآن الكريم ) و (البرنامج الثاني)، وسلاما على كوكبة الموهوبين والمبدعين والإذاعيين، الذين أمتعونا وثقفونا وشكلوا وجداننا، ومعذرة لمن نسيت أسماءهم من أساتذتنا الكبار.