إذا كان بعض أبناء جلدتنا قد بهرتهم الثقافة الغربية، فرأوا فيها الريادة والسيادة والنموذج الأمثل الذى يجب أن نلزمه كشرط لنلحق بالحضارة المعاصرة، فإن هناك بعضا من أبناء الغرب قد بهرتهم ثقافتنا العربية الإسلامية، فرأوا فيها أساس التحضر، وجمال الروح، وسمو العقل الإنسانى، لكن الفارق بين هؤلاء وهؤلاء أن الذين انبهروا بثقافتنا لم يخونوا ثقافتهم، ولم يحاربوها أو يحتقروها، أويقللوا من شأنها، ولم يكونوا معول هدم فى أيدى أعدائها.
وعلى مدى سنوات طويلة مضت كان هناك مستشرقون ارتبطوا وجدانيا بثقافتنا العربية الإسلامية، ودافعوا عنها عن حب واقتناع، ودفعوا فى سبيل ذلك أثمانا باهظة، ويكفى ـ مثلا ـ أن المستشرقة الألمانية آن مارى شميل ( 1922ـ 2003) سحبت منها جوائز عديدة بسبب كتاباتها المنصفة عن حضارة العرب والمسلمين وعلومهم، وهى التى اختارت أن تكتب على قبرها مقولة الإمام علي كرم الله وجهه : ” الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا “.
ويعد المترجم البريطانى دنيس جونسون ديفيز (1922ـ 2017) من أشهر نماذج المستشرقين ـ أو المستعربين ـ الذين ذابوا عشقا فى ثقافتنا العربية، لذلك اختار أن يعيش متنقلا بين البلدان العربية، حتى استقر به المقام فى مصر، واعتنق الإسلام ، واختار لنفسه إسم ” عبد الودود “، واشترى أرضا زراعية فى الفيوم، أمضى فيها أجمل أيام عمره مع زوجته فنانة الفوتوغرافيا، إلى أن توفي ودفن فى مقابر المسلمين بجوار أرضه، حسب وصيته.
كان ـ رحمه الله ـ يرفض وصفه بـ ” المستشرق”، ويفضل عليه ” المستعرب “، ويرى أن هذا الوصف هو الأصدق تعبيرا عنه، مؤكدا : ” إننا نعيش فى عالم واحد بعيدا عن فكرة الشرق والغرب، وأنا عشت حياتى فى مصر والدول العربية، وأحببت كل ماله علاقة بالثقافة العربية، مع العلم أننى بريطاني مولود فى كندا، وأنا الآن مسلم وإسمى عبدالودود “.
بدأ دنيس (عبدالودود) رحلة عشقه العربى من جامعة (كامبريدج) البريطانية فى ثلاثينيات القرن الماضى، حيث التحق بها لدراسة اللغة العربية وآدابها، ولم يكن عدد الطلاب المعنيين بهذه الدراسة معه يتجاوز ثلاثة أفراد، وجاء اختياره لدراسة اللغة العربية امتدادا لتجربته فى مصر ووادى حلفا بالسودان، حيث عاش جزءا من طفولته فى البلدين مع أسرته، وحين عاد لبلده وعمره 12 عاما لم يفارقه عشقه لصوت الأذان، وللعرب ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وأثناء دراسته الجامعية جاءته فرصة للعمل بالقسم العربى لهيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى) خلال الحرب العالمية الثانية، وصارت له صداقات وطيدة مع زملائه العرب العاملين بالإذاعة، ومن خلال أحاديثه معهم أصبح يجيد العربية الفصحى أفضل من بعض أهلها.
وفى أواخر عام 1945 عاد إلى القاهرة ليعمل مترجما فى المجلس الثقافى البريطانى، وتعرف على عدد من الأدباء العرب وارتاد مجالسهم وندواتهم، وبدأت صلته الفعلية بالأدب العربى، ثم انتقل إلى جامعة القاهرة ( جامعة فؤاد الأول آنذاك) ليعمل أستاذا للغة الإنجليزية لكنه سرعان ما استقال منها، وتفرغ لترجمة الأدب العربى وتقديمه إلى القارئ الغربى، وجعل من ذلك رسالة إنسانية وثقافية وحضارية تستحق أن يوقف حياته وجهده وماله من أجلها، فراح يصدر ترجماته على نفقته الخاصة، دون أى دعم من المؤسسات الثقافية العربية.
ولم يكن عبد الودود يترجم مايريده الغرب، وإنما ما يراه هو ضروريا، ومن واجب الغرب أن يطلع عليه، ليعرف حقيقة هذه الأمة العربية العظيمة، فهو وحده الذى يحدد الكتاب الذى سيترجمه، بناء على ذوقه الخاص، دون إملاء من أحد، أو تدخل من أية جهة.
كانت بداية ترجماته مختارات قصصية لمحمود تيمور وتوفيق الحكيم وطه حسين ويحيى حقى ولويس عوض ومحمد مندور، ثم اتجه إلى أدب نجيب محفوظ وكان أول من ترجم له، واتسعت الدائرة بعد ذلك لتشمل يوسف إدريس ومحمد البساطي وصنع الله ابراهيم ومحمد برادة ويحيى الطاهر عبد الله وسلوى بكر وغيرهم، كما ترجم نصوصا لشعراء وأدباء عرب مثل بدر شاكر السياب ومحمود درويش وإلياس خورى وغسان كنفانى والطيب صالح وجبرا إبراهيم جبرا وآخرين.
وفى هذا السياق يقول:” أنا أقرأ وأفهم بالعربى، وحرصت على تقديم المعانى العربية بروحها وزخمها، وقد ترجمت 38 رواية، و 57 قصة مصرية، منها ماهو مكتوب بالعامية مباشرة، ولكنى استطعت ترجمته، فالترجمة تعنى نقل مناخ ثقافي كامل للنصوص، لا مجرد ترجمة للكلمات المطبوعة “.
وفى مرحلة لاحقة اتجه إلى ترجمة النصوص الدينية بمشاركة صديقه الدكتور عز الدين إبراهيم، أبرزها ترجمة معانى القرآن الكريم تحت عنوان ” قراءات من القرآن الكريم”، إلى جانب 3 مجلدات من الأحاديث النبوية الشريفة هى : ” الأربعون النووية ” و ” الأربعون القدسية ” و ” ومختصر الكلم الطيب “، وهناك أعمال أخرى لم ينهها للإمام أبى حامد الغزالى وإخوان الصفا.
ومع ذلك لم يكن الرجل مترجما فحسب، وإن عرف اسمه بالأساس فى حقل الترجمة، بل كان كاتبا رائعا بالعربية، حيث أصدر روايتين ومجموعة قصصية بعنوان ” مصير أسود “، وكتاب ” ذكريات فى الترجمة “، وألف قصصا للأطفال تدور حول أسماء لها بصمتها فى التاريخ العربى، مثل ابن بطوطة وصلاح الدين الأيوبى وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وجحا وغيرهم.
وهكذا أصبح عبد الودود ( البريطانى) مرجعية عالمية في الأدب العربي بحكم الواقع، وترك بصمته على حرفة الترجمة عالميا، حتى لقب بـ ” شهبندر المترجمين”، وفى عام 2007 منح جائزة الشيخ زايد للكتاب، كشخصية العالم الثقافية لذلك العام، وعينته دور نشر عديدة مستشاراً لها لشؤون الأدب العربي، الله يرحمه.