فى دراسة موقفنا من الحضارة الغربية لدينا نموذجان متناقضان لاثنين من كبار المؤثرين فى ثقافتنا المعاصرة:الأول هو المفكر المصرى الدكتور عبدالوهاب المسيرى، رحمه الله، الذى حلت ذكرى وفاته فى الثانى من يوليو الجارى، وقد اشتهر بتحولاته الفكرية المتعددة، وعاش وتعلم فى الغرب، لكنه ظل شديد التمسك بعروبته وإسلامه، مفاخرا بهما، والثانى هو الشاعر السوري على أحمد سعيد إسبر، الذى تخلى عن اسمه العربى وتسمى بـ ” أدونيس “، وهو اسم لأحد الآلهة فى اللغة الكنعانية الفينقية القديمة، للدلالة على تنكره لهويته العربية الإسلامية، التى دأب على ازدرائها.
أما الدكتور المسيرى ( 1938 ـ 2008 ) فيعد واحدا من أبرز مفكرينا فى الخمسين عاما الماضية، نشأ فى دمنهور وسط أسرة متدينة ميسورة ومحافظة، فحفظ القرآن الكريم وجوده، ثم تحول وهو فى الجامعة إلى الفكر الماركسى المادى، ثم عاد إلى الإيمان بعد رحلة طويلة من البحث والتجريب، لم يشعر بالدونية أمام طغيان الحضارة الغربية بذراعيها العلمى والمادى، بل كان ناقدا لها، ذاكرا لمحاسنها وفضائلها، رافضا لسلبياتها، منتصرا لثقافته ولتقاليده الإسلامية، التى كان يرى أنها الأكثر ثراء، والأصلح للمجتمع وللإنسان.
وأما أدونيس، المولود فى 1930، فقد كان وما زال محكوما فى أفكاره وكتاباته بعقدة نقص مهينة أمام حضارة الغرب، الذى يرى فيه النموذج الأمثل لكل شيء، بينما كان وما زال ناقما على أصوله العربية الإسلامية، منتقصا من قيمتها.
والغريب فى أمر الشاعر أدونيس أن شهرته فى الأوساط الثقافية لم تقم على الشعر والأدب والإبداع، فقلما تجد أحدا يذكر له قصيدة، أو يكتب نقدا لإنتاجه الشعري، وإنما جاءت شهرته من خلال جرأته الدائمة على تحقير تراثنا العربي الإسلامى، وإلصاق كل نقيصة به، واتهام العقل العربى بالتخلف بسبب الفهم الدينى، أو القراءة الدينية التى يتبناها، وقد حاز قصب السبق فى هذا الاتجاه قبل كثيرين أمثال فرج فودة ونصر حامد أبوزيد ومراد وهبة وجابر عصفور وغيرهم.
عرفت أدونيس من خلال ما يكتب من خواطر وتهويمات غامضة، يسميها شعرا وليس فيها من رائحة الشعر شيئا، وزاد اهتمامى بخطابه المراوغ عندما دعته وزارة الثقافة ليتحدث فى ندوات معرض الكتاب عام 2015 عن تجديد الخطاب الدينى، رغم أنه يعلن فى كل مناسبة أنه لا دينى، وكان مما قاله فى المعرض آنذاك أنه لايدعو إلى تجديد الخطاب الدينى، وإنما يدعو إلى تجديد تأويل الدين، وإحداث قطيعة كاملة مع القراءة السائدة له، زاعما أن الدولة الإسلامية قامت على العنف والدم وإقصاء الآخر، ثم أنهى محاضرته تلك بالدعوة إلى إنشاء جبهة علمانية تعيد قراءة الموروث العربى، وتقدم قراءة جديدة للدين.
وفى مرحلة تالية قامت هيئة قصور الثقافة بإعادة طبع كتابه ” الثابت والمتحول” الواقع فى أربعة أجزاء، كل جزء يضم حوالى 400 صفحة من القطع المتوسط، وهذا الكتاب الذى يعد أيقونة أدونيس ومرتكزه الفكرى كان فى الأصل أطروحته لنيل الدكتوراه فى الأدب العربى من معهد الآداب الشرقية فى جامعة القديس يوسف ببيروت، إلا أنه ذهب به بعيدا عن الأدب، وركز على نقد العقل المسلم واتهامه بالتخلف، لأن هذا العقل ـ حسب زعم أدونيس والدكتور الأب بولس اليسوعى المشرف عليه ـ يتبنى تأويلا دينيا يدعو للجمود، ويحارب العلم والحداثة والتطور والتنوع المعرفى.
وكلما توسع فى اتهاماته ازداد سقوطا فى مستنقع التهافت اللامنطقى، فهو يتصور ـ على سبيل المثال ـ أن أزمة العقل العربى تكمن فى أن الثابت النصي فيما يتعلق بالمعرفة الدينية ( يقصد القرآن والسنة) قد انسحب على الأدب والشعر والفكر بعامة، وهى مجالات تتسم بالتغير والتحول لا بالثبات الذى يفضى إلى الجمود، وهذه فرضية خاطئة بالكامل، بل مخاتلة، لأن الثابت على المستوى الدينى عندنا يتعلق فقط بالأحكام الشرعية والغيبيات والفروض والعبادات، وما دون ذلك ـ حتى فى أمور الدين ـ فيه متسع لاختلاف وجهات النظر، ناهيك عن التنوع والتعدد المعرفى الذى يسمح بالتجديد والتطوير والتحديث فى التأويل والتفسير والفقه، وإلا ما كان هناك مجال لتعدد المذاهب والاجتهادات التى قال عنها الشيخ محمد الغزالى رحمه الله أنها تمثل أحزابا ومدارس فى الفكر الإسلامى، فما بالك بتعدد المدارس والاتجاهات فى الأدب والشعر والنقد والفكر بعامة، قديما وحديثا، وهى أوسع وأكثر من أن تحصى؟
فى المقابل قدم الدكتور المسيرى للمكتبة العربية العديد من الكتب فى السياسة وعلم الاجتماع والأدب، وكان أعظم إنجازاته ” موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية “، التى بدأها وهو فى أمريكا ليسد بها عجزا معرفيا فادحا فى معركة ” اعرف عدوك “.
وقد وفرت له تجارب الحياة فرصا للمقارنة بين طبيعة الحياة فى الشرق العربى الإسلامى والغرب العلمانى، بين مجتمع دمنهور المحكوم بعلاقات المودة والرحمة، والمجتمع الأمريكى الذى يصفه بأنه “سوق كبير بلا رحمة ولا إنسانية”، ليكتشف أن وطنه ـ رغم كل مايعانيه ـ صاحب حضارة إنسانية عميقة، ترتفع بأبنائها من ضيق المادة وسذاجتها إلى رحابة الدين ورحمته وإنسانيته، أما النظام المهيمن على المجتمع الأمريكى فإنه يجهض فى الإنسان القيم الإنسانية، ويخاطب أحط ما فيه من غرائز وشهوات بغية إشباعها، فلا تشبع، وإنما تنحرف به عن إنسانيته، وتحوله إلى حيوان له حضارة مادية بلا ضوابط، يمكن أن يدمر بها نفسه ومجتمعه والعالم أجمع.
وفى كتابه ” رحلتى الفكرية:سيرة غير ذاتية غير موضوعية” يقدم لنا د.المسيرى بعض تجاربه الشخصية فى حكايات عميقة، يقول لنا من خلالها:لاتنبهروا بالغرب المادى اللادينى، الذى يلهث وراء الحرية الجنسية والشذوذ وتقديس الفرد وتسليع المرأة، فإنه يحمل فى طيات أناقته عناصر تدميره.