من أشد الأمور سخافة ووضاعة تلك الدعوة التى ينبرى لها بعض المتفلسفين إلى إعادة قراءة النصوص الإسلامية ( القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) وتأويلها بتفسيرات حداثية جديدة تناسب العصر، من أجل تحقيق النهضة العلمية والحضارية المنشودة، والقضاء على العنف والتطرف، وهم يعلمون ـ ونحن نعلم ـ أن هذه الدعوة تنطوى على أهداف خبيثة تستهدف تبديل النصوص، وتفريغها من مضمونها، وصولا إلى تغيير الدين نفسه، أو تبديده، واستبداله بدين آخر، مصنع وجاهز لدى أجهزة معروفة.
وهذه الدعوة إلى تبديل النصوص ليست جديدة، فقد ظهرت مع ظهور الإسلام، حين طلب كفار قريش من النبي أن يأتى بقرآن غير هذا أو يبدله، لأن القرآن الذى أوحي إليه لم يكن على هواهم، وكذلك حاول بعض الذين احتلوا بلادنا أن يقضوا على القرآن الكريم أو يبدلوه، حتى يسهل عليهم تمييع هوية الأمة، وإضعاف روحها المقاومة، وتحويلها إلى أمة تابعة، وقد أشار إلى هذا المعنى رئيس وزراء بريطانيا فى مجلس العموم ( البرلمان البريطانى)، حيث قال وهو يشير إلى القرآن الكريم : ” لا قرار لكم فى مصر مادام هذا الكتاب فى أيدى المصريين”.
هناك فارق كبير بين الدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامى، والاجتهاد فى إطار النصوص ووفق سياقاتها، وبين هذه الدعوة الخبيثة التى يرددها الغرب وأذنابه إلى تبديل النصوص وإعادة تأويلها، والتى تحمل فى باطنها اتهاما للقرآن والسنة بأنهما سبب التخلف العلمى والحضارى، وسبب العنف والتطرف.
هل كان الإسلام عائقا للعلم والتحضرعندما كان المسلمون الأوائل يشيدون أعظم حضارة عرفها التاريخ، بينما كانت شعوب أوروبا تعانى الفقر والجهل والمرض فى العصور الوسطى؟ وهل أعاقت النصوص الدينية الشيوخ أمثال حسن العطار ورفاعة الطهطاوى وعلى مبارك ومحمد عبده عن دفع تلاميذهم إلى طلب العلم ؟ وهل منع الدين أصحاب العقول النيرة من العرب والمسلمين عن تلقى العلم والنبوغ فيه عندما أتيحت لهم الفرصة، أمثال الدكتور مصطفى مشرفة والدكتورة سميرة موسى والدكتور أحمد زويل؟
لماذا الإصرار على اختلاق ” مشكلة دينية ” للإسلام فى مواجهة العلم، بدلا من أن نناقش قضايا العلم والتعليم الحقيقية، مثل انخفاض جودة التعليم وقصور المناهج وتخلفها، وضعف كفاءة المعلمين، وضرورة تطوير قدراتهم ومهاراتهم ورواتبهم ؟ ولماذا يتم تصوير الإسلام على أنه عقبة أمام العلم والنهضة، مع أن النصوص واضحة تماما فى الدعوة إلى العلم، والحث على طلبه، والثناء على العالمين وذم الجهل والجاهلين.
ومن المفارقات العجيبة أن معظم الذين ذهبوا إلى الغرب لتلقى العلم تخصصوا فى العلوم الإنسانية ( الأدب واللغة والدين والقانون)، فيما كان الأولى أن يتخصصوا فى علوم الطبيعة والرياضيات والتكنولوجيا والصناعة، كما أوصى بذلك جدنا الأكبر رفاعة الطهطاوى، وكما فعلت الصين واليابان وكوريا، وحتى الذين تخصصوا فى العلوم الطبيعية ـ وهم قلة قليلة ـ لم يعودوا إلى أوطانهم لتستفيد منهم، ومن عاد تم قتله أو التخلص منه بأية وسيلة، أو فرض عليه حصار، كى لاينقل علمه لأهله، فيأخذهم إلى النهضة، بينماعاد حملة العلوم الإنسانية بأكاليل الغار، ووضعوا فى أرفع المناصب، وصاروا قادة رأي، حتى يتمكنوا من السيطرة على عقول تلاميذهم، وحشوها بما تعلموه على أيدى المستشرقين، ويشغلوا أوطانهم بقضايا الشك والجدل فى تراثهم، ويبتعدواعن ضرورات النهضة الحقيقية.
ماذا أفادت مصر، وماذا أفاد العرب جميعا من قضية الشعر الجاهلى، مع احترامنا وتقديرنا للدكتور طه حسين؟ بل ماذا أفاد الأدب العربى من قضية إنكار وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فى التاريخ التى أثارها طه حسين، والتى مازالت تطل برأسها بين الحين والآخر كلما أراد أحدهم أن يلفت الأنظار إليه ؟ وماذا أفادت النهضة من إنكار محمد أحمد خلف الله وأستاذه أمين الخولى لواقعية القصص القرآنى فى التاريخ، والزعم بأن هذه القصص لم تحدث فى الواقع، بل هى مجرد خيال ؟
وإذا تتبعنا عناوين الكتب التى تتحدث عن مشاريع النهضة وجدنا أغلبها لفلاسفة ومفكرين متخصصين فى نقد الإسلام، ومعظم هؤلاء يشاغبون فى الدين تشكيكا واتهاما، كأنما ارتبطت النهضة بإعادة تأويل الدين أو تبديله أو تبديده، واقرأ إن شئت فى ذلك لحسن حنفى وعابد الجابرى وصادق جلال العظم ومحمد أركون وطيب تيزينى وعزيز العظمة ومراد وهبة.
هؤلاء وأمثالهم لديهم الجرأة الكافية لاتهام الدين بأنه سبب التخلف الحضارى، لكن ليس لديهم الجرأة للبحث عن الأسباب الحقيقية والمنطقية لهذا التخلف، والدعوة إلى تغييرها، فهناك شعوب تعبد البقر لكنها عرفت أسباب النهضة الحقيقية فنهضت وتقدمت.
ولديهم الجرأة لاتهام الإسلام بأنه سبب العنف والتطرف، لكنهم لا يستطيعون اتهام السياسات العالمية والأمريكية والمنظمات الدولية وشركات صناعة الأسلحة بأنها السبب الحقيقى لهذا العنف، كما صرح د. أحمد الطيب شيخ الأزهر فى أكثر من مناسبة.
هم يريدون اختلاق ” أزمة دينية ” لتغيير عقيدة الشعب، وتكريس التبعية، لكنهم حتى لو أنشأوا مئات الفضائيات الهدامة، وأحرقوا مئات المصاحف، فسيبقى العنف مشتعلا، مادام هناك ظلم عالمي للشعوب الفقيرة المستضعفة، وإذن فالعبث بالدين لن يحل مشكلة العنف، وإنما سيزيدها اشتعالا.
إن الأسباب الدينية للتخلف والعنف أسطورة اخترعها الغرب لكى يزيح من طريقه كل عوامل المقاومة ضد سياسات السلب والنهب والعنف التى يمارسها فى حق الشعوب، وللأسف لدينا من يصدق هذه الأسطورة، ويتربح من ترديدها، ولو صدق الغربيون فى احترام إرادة الشعوب، وساعدوها بصدق على الخروج من دائرة التخلف، واجتهدوا فى تحقيق العدالة ليحصل كل شعب على مايستحق من الكرامة لانتهى العنف، وبدلا من دعوات إصلاح الدين وإعادة قراءة النصوص الدينية وتغييرها، فسيكون علينا إعادة قراءة القوانين الدولية، وإصلاح النظام العالمى ليصبح أكثر عدلا.