الأغنية هي أحد الاشكال التعبيرية التي عبر فيها الإنسان عن مشاعره وأحاسيسه، وقد رافقته في عموم تفاصيل حياته وفي قضاياه الحميمية والخاصة، جسد فيها حالات الفرح والبهجة والحزن والشجن وجاورته في مختلف نشاطاته الاجتماعية والاقتصادية كمواسم الخصب أيام الحصاد وجني المواسم، وكذلك في أيام المعارك والحروب لإثارة الحماسة وشحذ الهمم في تعبيرها عن الحس العام لمجموعة البشر التي تقطن منطقة ما وطريقة تعبيرها عن همومها وعواطفها وأفكارها، وتتباين مواضيعها بين الغزل والرثاء والهجاء والفخر والتغني بأمجاد الجماعة، قوامها الكلمة واللحن وتغلب عليها اللهجة العامية وتتوزع دلالتها عبر النظم واللغة والرمز.
الاغنية حامل ثقافي وتراثي، وقد كان لترتيل وتلاوة القران دورًا كبيرًا في تدريب الأصوات العفوية نظرًا لأهمية النفس الطويل في الاتقان المناسب والنطق الصحيح لمخارج الحروف بالإضافة للإلمام بمعرفة المقامات وتحولاتها، ولعل الطرب هدف أساسي للأغاني وهو حالة خفة يصاب بها المرء تعبيرًا عن إحساسه بالنشوة نتيجة حزن أو سرور يطغى عل كيانه ، وقد كان الارتجال الغنائي هو الرحم التي تكونت فيه الاغنية العربية وتنوعت بين الطقطوقة – الموال – الليالي، وبرزت في مصر الاغاني التي ظهرت في تراث محمد عثمان : يا من انت واحشني وأصل الغرام نظرة والموشحات العظيمة مثل ملا الكاسات وسقاني، وبعدها ظهر بالموسيقا العربية ما عرف بالقصيدة المغناة مثل أراك (عصي الدمع لابي فراس الحمداني ) التي غنتها السيدة أم كلثوم وتبعها كثيرون بعد ذلك.
الأغنية الشعبية:
الأغنية الشعبية أو ما عرف بالفولكلور الغنائي وهي التي يغنيها الشعب وانتقلت اليه بشكل شفاهي وقامت الأجيال بتعديلات عليها وفق ضرورات كل مرحلة ولا يعرف لها مؤد محدد أو صاحب لألحانها أو كلماتها وتتميز بالشيوع والانتشار بين أفراد الجماعة وهي محفوظة في ذاكرتها، تضرب جذورها عميقًا في تربة الحياة وتعيش في وجدان الشعب وحضورها كبير في ذاكرة الأجيال كخزان ثقافي تنهل منه باستمرار، ومنها أغاني الاعراس فالاقتران بين روحين مناسبة سعيدة ومصدر للبهجة لذا تحفل هذه المناسبات بالأغاني والاهازيج وأحيانًا تستمر هذه الافراح سبعة أيام بلياليها وتتوزع بين تعليلة العريس وتعليلة العروس وزفتها، وهناك ما يسمى بالزجل أو “قصيدة الفن” وهو نوع يشبه(الجناس) في الزجل وهو أن تأتي نفس الكلمة في معنيين مختلفين في القافية مثل قصيدة سلمان نفاع (محبوب قلبك)
محبوب قلبك بالهوى سميتني
من بعد ما سميتني سميتني
عليتني ع جوانحك فوق السما
من بعد ما عليتني عليتني
عليتني بجوانحك فوق السما
وصرت تحكي بالإشارة والوما
جريتني ع محبتك حتى العما
من بعد ما جريتني جريتني
وهناك (الدلعونا): تعرف الدلعونا في الأوساط الشعبية بهذا الاسم، وربما جاءت الكلمة من حالة الدلع في مرافقتها للدبكة والرقصات الشعبية وخاصة تلك التي تغنى يشكل جماعي في الأعراس والمناسبات تتخذ شكل الحوار بين مجموعتين أو مغنيتين وكذلك (الهوارة) وهي من أغاني الدبكة واشتهرت كثيراً في لبنان، وأغلب أغاني الهوارة مصدرها جبل العرب، ومنه انتقلت إلى لبنان وفلسطين والأردن. وقد انتشرت الأغنية الشعبية الراقصة المسماة بالردحة (في الجزيرة العربية)، والدّحة (في شمالي سورية والعراق)، والدبكة (في قرى بلاد الشام)، وهناك موسيقا الصناعات والحرف عرف بها أرباب الحرف والباعة والمنادين والملاحين وموسيقى المهرجانات الشعبية كالحصاد؛ اجتناء التمر؛ اجتناء الثمار؛ جز صوف الغنم وتختلف كل منطقة بطقوسها موزعة بين البدو الحضر وبين الريف والمدينة.
مكونات الاغنية العربية:
الأغنية العربية لها مكونات أساسية تتوزع بين الكلمة واللحن والايقاع والأداء، فالكلمة المغناة لطالما ارتبطت بالشعر، وعبر التاريخ ارتبط الغناء بالشعر عند العرب بسبب أنه كان ارتجاليًا شفويًا غير مدون أو مكتوب في فترة من تاريخه، لذا اعتمد رواجه على إيقاعه الصوتي المتناقل بين مردديه وسامعيه، لأن الأداء الصوتي يظهر أوزانه وايقاعاته في تداخل بين الشعر والغناء ويشكل كل منهما رافدًا للآخر ومنه ظهر الشعر الغنائي الخاص بالأداء الغنائي المحمول على أحد الالحان كفن مختلف عن الشعر التقليدي في خفة اللفظ ورقة المعنى وفي البعد عن الالتزام الصارم بالقافية وخاصة عندما أطلت التجارب الشعرية للشعر الحر فأصبح تداوله أكبر من خلال الاغنية وتشهد على ذلك الأغاني التي اعتمدت أشعار نزار قباني ومحمود درويش وسواهم،
فالنص الشعري بمعناه ورشاقته وما يختزنه من مشاعر يوحي بتنوع الموسيقا وتنقلات الصوت فيها بين خفوت وعلو، أو ما سمي بالقرار والجواب.
اللحن: وهو المكون الثاني للأغنية فكل موضوع في الشعر المنظوم أو المنثور أو كلمات أغنية لهم قالب لحني يناسب الفكرة التي يدور حولها سواء عاطفية أم اجتماعية أم سياسية حماسية من حيث السرعة والقوة أو البطء والهدوء وفق مقتضى الحال وحسب ما يختزنه الملحن في ذاكرته من ألحان تراثية وقدرته على مزاوجتها يما يناسب الحاضر وما يستلهم به من سعة في الخيال وطاقة الروح الابداعية لديه، وبما يتناسب مواضيع الفرح كالولادة والختان والزفاف أو الحزن كالفقد والموت والهجر.
تبنى طرائق تلحين الأغنية العربية المعاصرة على فكرة مقطع واحد غنائي يتكرر في كل تكرار تتبدل الكلمات فيه عند الإعادة وفي ذات الزمن تعزف الموسيقى اللحن نفسه بين مقطع وآخر دون أي تغيير، وهذه من الطرق البسيطة التركيب لسهولتها بالأداء والتلحين، غير أن الأغاني التي تتعدد مقاطعها فهي تختلف عن ذلك حيث تتكون من(المذهب) وهو الجملة الرئيسية والبارزة وأول مقطع بالأغنية وبعدها يأتي المقطع الثانوي (الكوبلية) وهو يفارق المذهب في اللحن والكلمات اللحنية عبر موسيقى ممهدة تتنقل من (المذهب) الى (الكوبلية ) ,في تدرج لحني للانتقال من المقطع الرئيسي الى المقطع الثانوي وتهيئة اذن المستمع والمؤدي بآن واحد، وهذا نلحظه في أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهم من معاصيرهم، وقد عبرت عنه فيروز بشكل مباشر
أغنيتها “سلملي عليه” إذ قالت في أحد مقاطعها:
وأنا عم غني المذهب
لما بغني ردوا عليه
وبعده نفسه المذهب
ولولا قدرته زيدوا عليه
وعودو تبقوا عيدوا الكوبليه
سلملي عليه ..سلم)
وتتباين الألحان بين الشدة واللين وبين الهدوء والقوة فتكسب النفس هدوءًا واستقرارًا ونميزها على أنساق:
1- ما يتعلق منها باللهو والطرب والفرح والقوة
2- ما يتعلق منها بالحزن والنواح
3- ما يتعلق ببعد ديني بالتهليل والتسبيح والترتيل والتضرع
ويأتي الايقاع كبند ثالث من مكونات الأغنية ففي الشعر يتمثل بالتقطيع والتفعيلة والربط بين أجزاء البيت الشعري، أما بالموسيقا فهو أشبه بنبضات معينة عبر زمن محدد بتكرار منظم فيتم تقسيم الصوت إلى فترات زمنية تطول أو تقصر أشبه بتفعيلة تشكل أساس الجملة الموسيقية ونبضها، مما يسمح بالانسجام الكلي ويشكل دعامة للنغم، والوزن والايقاع يظهران بشكل بارز في الشعر والموسيقا بأشكال مختلفة من حيث البساطة والتركيب والسرعة والبطء، ويظهر فيها السمة المميزة لكل مكان كهوية مميزة للشعوب مرتبطة ببيئتها وواقعها وتراثها، وقد عرفها العرب قديمًا حيث ذكرها الكندي في وصفه إذ اعتبر الايقاعات الممتدة الزمان مشاكلة للشجن والحزن والايقاعات الخفيفة المتقاربة مشاكلة للطرب.
وبعدها يأتي الأداء آخر مكونات الأغنية وشكل ظهورها، فالغناء مصطلح واسع يضم كل ما يصدر عن الحنجرة البشرية من أصوات مغناة سواء كان أغنية أو موال أو ترتيل أو ترانيم، تصل إلينا عبر الصوت الجميل والنطق الصحيح للمفردات المغناة وقدرة المغني على التلاعب بالحليات والزخرفات اللحنية والقفلات المميزة مما يضمن ملامسة أذن وقلب المستمع.
فالأغنية رافقت الانسان منذ أن عرف الكلام وتطورت معه إلى أن وصلت لشكلها المعاصر وكانت تعبيرًا عن مشاعره وانطباعاته وردود أفعاله تجاه الكون وصورة تفاعله مع الآخر والطبيعة، التعبير الذي يعكس تموجات النفس البشرية في أحزانها وأفراحها والنابضة بألوان الحياة المفعمة بالعشق والحنين.