الظروف المناخية وانسحاب روسيا من مبادرة البحر الأسود.. مبررات وهمية
حجم العرض تجاوز الطلب بين يوليو 2022 ويونيو 2023
4 شركات كبرى تسيطر على 70% من السوق ..!!
مكاسب بالمليارات .. بسبب المضاربات والاحتكارات.. !!
تقرير يكتبه
عبد المنعم السلموني
يبدو أن الظروف المناخية تحالفت مع قرار روسيا الانسحاب من مبادرة البحر الأسود لتصدير الحبوب، كي تشعل المخاوف الكبيرة من نقص إنتاج القمح في العالم. لكن في الوقت نفسه نجد من يقول إن التوقعات بإمكان حدوث نقص في إنتاج القمح هو نوع من التضليل والأكاذيب وأن إنتاج العالم من الحبوب يكفي ويزيد، مشيرًا إلى أن الاحتكارات التجارية العالمية هي التي تتحكم في أسعار القمح وأن هذه الاحتكارات تحقق أرباحًا طائلة بترويج المخاوف والأوهام المصطنعةمن حدوث أزمة ووجود نقص في الإنتاج!!
قال ستيفن نيكلسون، الخبير الاستراتيجي العالمي للحبوب والبذور الزيتية لدى رابوبانك، إن القمح أصبح أخيراً محصولاً “مُهمًا” بعد أن كان البطة السوداء.
وأضاف، إن سلسلة من المخاطر المتعلقة بالعرض والظروف المناخية تجعل الأمور مثيرة.
ويقول سين برات، في تقرير لموقع بروديوسر دوت كوم، إن محاصيل كندا تذبل في الحقول. كما تتوقع شركة ماركتسفارم MarketsFarm إنتاج 30.4 مليون طن من إجمالي إنتاج القمح، وهو أقل بكثير من أحدث توقعات وزارة الزراعة الأمريكية البالغة 35 مليون طن.
ويقول الموقع إن محصول القمح الشتوي في الولايات المتحدة كان مخيبا للآمال، ويعاني القمح الربيعي من ظروف الجفاف. كما حصدت الأرجنتين محصولًا سيئًا، وبدأ المحصول الجديد بداية صعبة.
وكانت الظروف الجوية تبدو جيدة في البداية في الاتحاد الأوروبي، لكنها تحولت إلى حارة وجافة، كما بدأت العائدات في التقلص.
وقال خلال مقابلة في معرض Ag in Motion قرب لانجهام، ساسك: “سيكون محصول أستراليا منخفضًا هذا العام”.
ومن الممكن أن تتسبب ظاهرة النينيو في فوضى بالهند وجنوب شرق آسيا، كما تعاني الصين من مشاكل في الجودة بسبب أمطار الحصاد.
توصل بروس بورنيت محلل ماركتسفارم MarketsFarm، خلال عرضه لتوقعات السوق في المعرض ،إلى أن وزارة الزراعة الأمريكية تتوقع 54.7 مليون طن من مخزون القمح النهائي لكبار المصدرين في العالم في 2023-2024. وهذا أقل بمقدار 4.5 مليون طن عن العام الماضي.
وقال: السوق تتفاعل وكأن هناك أطناناً من القمح. لكن الوضع صعب للغاية، موضحًا إن وزارة الزراعة الأمريكية تتوقع وصول 11 مليون طن من صادرات القمح الأوكراني في الفترة 2023-2024، لكن هذا يبدو مشكوكًا فيه الآن بعد انسحاب روسيا من مبادرة حبوب البحر الأسود.
وقال: “هناك فرصة محدودة للتصدير عبر القنوات الأخرى”. ويمكن لأوكرانيا نقل الحبوب عبر بحر البلطيق عبر بولندا أو عبر موانئ رومانيا على البحر الأسود.
ومع ذلك، فإن تلك الدول لديها محاصيل أكبر وليست مهتمة بنقل القمح الأوكراني عبر موانئها.
وقال: “إذا استمر إطلاق الصواريخ، فقد يؤدي للقضاء على كل قدراتهم التصديرية”. ويمكن لأوكرانيا أيضًا أن تبدأ في استهداف الموانئ الروسية، مما يعيق قدرة موسكو على شحن القمح حول العالم.
وقال بورنيت: “لم يقم سوق القمح بتسعير أي من المخاطر المرتبطة بذلك”.
كانت أسعار القمح قد شهدت ارتفاعات متتالية بعد أن هددت روسيا بمعاملة السفن المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية كحاملات بضائع عسكرية. وجاء ذلك بعد وقت قصير من انسحاب الكرملين من مبادرة حبوب البحر الأسود، وهي صفقة بالغة الأهمية في زمن الحرب والتي وفرت ممراً إنسانياً بحرياً لتصدير الحبوب الأوكرانية.
وأعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش عن أسفه “العميق” لقرار روسيا إنهاء المبادرة، التي أنهت في الواقع “شريان الحياة” لمئات الملايين الذين يواجهون الجوع، بالإضافة إلى من يعانون من ارتفاع تكاليف الغذاء في العالم.
وقال منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إن قرار روسيا بالانسحاب من الاتفاقية سيعرض الأمن الغذائي العالمي للخطر “ما نعرفه بالفعل هو أن هذا سيخلق أزمة غذائية كبيرة وضخمة في العالم”.
ولكن يشير تحليل مناخي جديد إلى أن موجات الحر ستصبح أكثر تواترًا في جميع أنحاء العالم، وهو اتجاه أنه سيكون له تداعيات خطيرة على الدول التي تنتج القمح، بما في ذلك الصين والولايات المتحدة.
يتوقع فريق بحثي دولي أن تغير أنماط الأمطار الموسمية ودرجات الحرارة القصوى والجفاف الذي سينتج عن ارتفاع درجة حرارة العالم سيقلل من غلة المحاصيل، وأن العالم يجب أن يستعد لانعدام الأمن الغذائي الناجم عن تغير المناخ.
نصح فريق البحث من بريطانيا وهولندا والولايات المتحدة وزيمبابوي بأن يبدأ المنتجون الزراعيون في استنبات مزيد من أصناف القمح المقاومة للحرارة، مع توسيع أنظمة الغذاء لتقليل احتمالات أن يتسبب الفشل في منطقة ما في تدمير مورد طعام العالم.
ووجدت الدراسة أنه في شمال شرق الصين، فإن موجة الجفاف التي حطمت الرقم القياسي يمكن أن تكون حدثًا حارًا غير مسبوق بنسبة 63%، حيث يتم إنتاج الكثير من القمح في العالم.
الصين هي أكبر مستهلك ومنتج للقمح في العالم. وأظهرت بيانات حكومية أن البلاد أنتجت العام الماضي حوالي 140 مليون طن من المحصول.
في السنوات الأخيرة، كثفت السلطات الصينية جهودها لتوفير ما يكفي من الغذاء لإطعام 1.4 مليار شخص في البلاد، لا سيما في مواجهة الاضطرابات العالمية والحرب في أوكرانيا، والتي تؤثر على الواردات وسلاسل التوريد.
في اوائل يونيو، دفعت الأمطار الغزيرة غير المعتادة في الصين السلطات المحلية إلى تسريع حصاد وتجفيف القمح التالف في محاولة لإنقاذ المحصول.
ويشير هولي شيك في تقرير على موقع ساوث تشاينا مورننج بوست إلى أن الأمطار المستمرة والرطوبة العالية في شمال الصين تسببت في تلف البراعم، المعروف باسم إنبات ما قبل الحصاد. أصيب القمح أيضًا بأمراض نباتية يمكن أن تؤدي إلى زيادة مخاطر السموم، وبالتالي الحد من تطبيقات الاستخدام النهائي، مثل الخبز.
ويقول الخبراء إن آثار تغير المناخ، بالإضافة إلى عوامل مثل التغييرات في الصادرات التي يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار القمح وربما تؤدي إلى نقص الغذاء -انعدام الأمن الغذائي -في العالم النامي.
أسطورة نقص حبوب
لكن هناك من يرى إن الحرب في أوكرانيا لم تؤد إلى نقص عالمي في القمح. ورغم تصاعد معدلات الجوع على مستوى العالم في الأعوام الأخيرة، فإن السبيل لمعالجة أزمة الغذاء الحالية يتلخص في التركيز على أسبابها الحقيقية، وتتمثل في المضاربات المالية واستغلال الشركات.
يقول جاياتي جوش، في تحليل لموقع بروجكت سينديكيت دوت أورج، إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتزايد شدة الفيضانات وتواترها، وحالات الجفاف، وغير ذلك من الظواهر المناخية القاسية، كان سبباً في تزايد التحذيرات من نقص وشيك في الحبوب، وهو ما قد يؤدي إلى كارثة على سكان العالم الأكثر فقراً. ورغم أن تغير المناخ يشكل التهديد الأعظم على المدى المتوسط والطويل للأمن الغذائي العالمي، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا كثيراً ما يُستشهد به باعتباره السبب المباشر لأزمة الجوع الحالية.
وبالنظر إلى أن أوكرانيا وروسيا، فقد كانتا تمثلان في السابق أكثر من ربع صادرات القمح العالمية، وأرجع صناع السياسات والمعلقون ارتفاع أسعار إلى نقص الإمدادات الناجم عن الصراع.
ولكن في حين ارتفع مؤشر أسعار القمح العالمي بنحو 23% في الأشهر التي أعقبت الغزو الروسي، بدأت الأسعار تنخفض في يونيو 2022. وبحلول ديسمبر، عادت الأسعار إلى مستويات ما قبل الحرب. وحتى عندما تم الاعتراف بهذا الاتجاه، فإنه كان يُعزى إلى نجاح مبادرة حبوب البحر الأسود، وهي الاتفاقية التي تدعمها الأمم المتحدة والتي رفعت الحصار الروسي عن صادرات الحبوب الأوكرانية. ولكن أثار قرار روسيا الأخير بالانسحاب من الصفقة مخاوف بشأن تأثيراته المحتملة على تجارة الحبوب العالمية.
وهذه المخاوف مضللة لسببين. أولاً، ظل المعروض العالمي من القمح (سواء الإنتاج الإجمالي أو الكمية المتداولة) ثابتاً منذ بداية الحرب الأوكرانية. يتضمن نظام معلومات السوق الزراعية، الذي تديره منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، بيانات من المجلس الدولي للحبوب لتوفير تقديرات العرض والاستهلاك والتجارة. وفي الفترة بين يوليو 2021 ويونيو 2022 -وهي الفترة التي بلغت فيها أسعار القمح ذروتها -ارتفع الإنتاج العالمي بمقدار خمسة ملايين طن بينما زادت أحجام التجارة بمقدار ثلاثة ملايين طن. وخلال الفترة نفسها، ارتفعت المخزونات بمقدار ثلاثة ملايين طن.
ويقول جوش إن التقديرات تشير إلى أن مقدار العرض العالمي قد تجاوز الطلب بين يوليو 2022 ويونيو 2023، مما يشير إلى اتجاه ثابت.
ثانياً، تميل الحكومات ووسائل الإعلام إلى التركيز على النقص الإقليمي بينما تتجاهل الزيادات في الإنتاج والتجارة في أجزاء أخرى من العالم. واقعيًا، يتم إنتاج القمح على مستوى العالم، مما يعني أن النقص في منطقة ما يمكن تعويضه بزيادة الإنتاج في منطقة أخرى.
إذن، ما سبب ارتفاع أسعار القمح؟
يقول جوش، إن سوق الحبوب العالمية تعمل وفقًا لاحتكار القلة، فهناك أكبر أربع شركات -آرتشر دانيلز ميدلاند، وبونج (التي اندمجت مؤخرًا مع فيتيرا)، وكارجيل، ولويس دريفوس – تسيطر على أكثر من 70% من السوق وتمثل شركة جلينكور حصة أخرى، تبلغ 10%.
في المراحل الأولى من حرب أوكرانيا، وخاصة بين مارس ويونيو 2022، حصد تجار الحبوب الأربعة الكبار أرباحا وإيرادات قياسية. وارتفعت إيرادات كارجيل السنوية بنسبة 23%، لتصل إلى 165 مليار دولار، في حين ارتفعت أرباح لويس دريفوس بنسبة 80%. وعكست هذه المكاسب ارتفاعات الأسعار التي لم تساير ديناميكيات العرض والطلب في العالم الحقيقي
وتشير التقارير إلى أن صناديق التحوط المدفوعة بالزخم كسبت 1.9 مليار دولار بسبب ارتفاع أسعار الغذاء نتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا. وبدلاً من منع أو احتواء مثل هذه المناورات المالية، سمحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لهذه المناورات بالاستمرار بلا هوادة.
ويبدو أن مبادرة البحر الأسود BSGI تدور حول تسهيل الصادرات من أوكرانيا أكثر من اهتمامها بمعالجة الجوع في العالم. بالإضافة إلى الحصار الروسي على طرق أوكرانيا البحرية، تعرضت الطرق البرية فيها للخطر بسبب قيود الاستيراد التي فرضتها دول أوروبا الوسطى والشرقية مثل بولندا وبلغاريا والمجر وسلوفاكيا ورومانيا، والتي تهدف لحماية المزارعين المحليين المتعثرين من الحبوب الأوكرانية بأسعار تنافسية. ولكن كما أشار آخرون، فإن مبادرة BSGI تخدم في المقام الأول مصالح عمالقة الأعمال الزراعية الذين يتاجرون بالحبوب الأوكرانية والممولين الذين يدعمونهم.
ويقول جوش: المثير للدهشة أن أغلب صادرات أوكرانيا من الحبوب لم تصل إلى أفقر دول العالم. وبدلا من ذلك، ذهب 81% من 32.9 مليون طن متري تم تصديرها بموجب مبادرة البحر الأسود BSGI إلى البلدان ذات الدخل المرتفع والبلدان المتوسطة الدخل، وأغلبها دول أوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا وهولندا، فضلا عن الصين وتركيا. وقد تلقت الدول المنخفضة الدخل 3% من صادرات أوكرانيا من الحبوب و9% من قمحها (أغلبها إلى بنجلاديش). ونظراً لأن الدول الأفريقية لم تتلق سوى القليل من هذه الصادرات، فإن المخاوف من أن يؤدي انهيار الاتفاق إلى مجاعة جماعية في القارة تبدو مبالغ فيها إلى حد كبير.
رغم أن الجوع في العالم ارتفع في السنوات الأخيرة، فإن ذلك لم يكن بسبب نقص الحبوب. ولإنما بسبب انخفاض الصادرات، وتضاؤل عائدات النقد الأجنبي، وهروب رؤوس الأموال، وارتفاع تكاليف خدمة الديون، مما قلص قدرة العديد من الدول على استيراد المواد الغذائية.