كادت ظروف خاصة أن تحول دون كتابة هذه الزاوية اليوم، لكن الأستاذ رئيس التحرير لا يعترف بالظروف الخاصة، ويبخل علي ـ من فرط كرمه ـ بأجازة، لذلك يسر الله لى أن أقتبس من فيوضات الدكتور محمد الشرقاوى، أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ثلاث ومضات وضاءة، تشرح صدور قوم مؤمنين، والدكتور الشرقاوي صديق عزيز واسع الإطلاع، عميق الفكرة، ثري التجارب، صاحب رسالة قيمة، وثقافة رفيعة.
فى الومضة الأولى يقول د. الشرقاوى: من الكتب التي يمكن أن توصف بأنها نادرة في مكتبتي، ولا أعرف كم نسخة منه قد توجد في مكتبات خاصة في مصر، هذا الكتاب الذي صورته حين كنت أعمل في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام اباد ( عاصمة باكستان)، من مكتبة العلامة محمد حميد الله، التي أهداها لمجمع (معهد البحوث الإسلامية) التابع للجامعة، وكان الإشراف على المكتبات من صلاحياتي كنائب لرئيس الجامعة حينذاك.
الكتاب عبارة عن تقرير مفصل عن (المؤتمرات الدولية والإقليمية الخمسة التي عقدها المنصرون ـ أو المبشرون المنخرطون في أعمال تنصير المسلمين ـ في ربوع العالم الإسلامي، العربي والآسيوي والإفريقي، وقد نشر هذا الكتاب سنة 1924م، أي منذ مائة عام، بإشراف رئيس المجلس العالمي للتنصير السيد جون.ر. موت John R.Mott))، وضم التقرير النتائج والاقتراحات والتوصيات والتحديات التي واجهت المنصرين في العالمين الإسلامي والعربي، وكيفية التعامل والمواجهة والحلول، كما تضمن أسماء المبشرين المشاركين في كل مؤتمر من هذه المؤتمرات التنصيرية الخمسة، وهي : مؤتمر القدس عاصمة فلسطين، مؤتمر قسنطينة في الجزائر، مؤتمر حلوان في مصر، مؤتمر برومانا في سوريا، مؤتمر بغداد في العراق .
وفي هذا الكتاب ما يصعب حتى تخيله من أعمال وأقوال هؤلاء المبشرين الكاثوليك والبروتستانت الغربيين الأوروبيين والأمريكيين.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الأورثوذكس الشرقيين والغربيين على السواء لم يكونوا مهتمين أو معنيين بتنصير المسلمين، لكن المنصرين الأمريكيين والأوروبيين من الكاثوليك والبروتستانت عندما رأوا أنهم لم يحققوا أهدافهم المرجوة في تحويل المسلمين إلى المسيحية، توجهوا بقوة إلى تحويل أقباط مصر الأورثوذكس إلى الكاثوليكية أو البروتستانتية أو المشيخية،
وقد حققوا في ذلك نجاحًا ملحوظًا يستحق التأمل والدراسة !
XXX
وفى الومضة الثانية يقولد. الشرقاوى:
قبل وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان الوحي يتنزل أولا بأول بحلول لمشاكل الناس، وبإجابات عن تساؤلاتهم التي لا تنتهى، وكان الله يبعث في كل قرية، وفي كل أمة، رسولا أو أكثر، وكان الوحي يترى ويتنزل للناس بالحلول والأجوبة، ولم يترك الله الناس لعقولهم ووعيهم وفكرهم واجتهاداتهم.
وبانتقال الرسول الخاتم، صلى الله عليه وسلم، إلى الرفيق الأعلى، توقف نزول الوحي، لكن مشاكل الناس وتساؤلاتهم لم تتوقف، إن لم تكن قد تضاعفت.
والسؤال الملح : إلى أين يذهب الناس، وإلى من يلجأُون ؟
وجاءت إجابة الإسلام واضحة جلية حاسمة : ليذهبوا إلى عقولهم، وليلجأوا إلى علمائهم الذين يجتهدون لهم اجتهادا عقليا فيما بين أيديهم من نصوص موحى بها، وفي ضوء المستجدات من ظروفهم وواقعهم المتغير بحسب الزمان والمكان وتغير المجتمعات، في ضوء إطار مرن، أي في ضوء قواعد عامة تضبط حركة اجتهاداتهم، فالعلماء – في توجيهات الإسلام – هم ورثة الأنبياء في علومهم التي كانت تتنزل بالحلول والأجوبة .
لقد قدر الإسلام العقل حق قدره، وأنزله مكانا عاليا سامقا، إذ جعل أصحاب العقول المجتهدين ورثة للأنبياء .
ولا ريب أن الإسلام لا يمنح هذه الوظيفة الجليلة عالية القدر للعقل مالم يكن هذا العقل – عموما – قد نضج واكتمل، وأضحى قادرا فى الغالب على القيام بمهامه، وممارسة صلاحياته بكفاءة ورشد، بعكس ما كان العقل عليه قبل ختم النبوة .
ذلك ماكنت أشرحه هذا الأسبوع لطلاب الدراسات العليا ، كأحد الجوانب التي جعلت من الإسلام الدين الوحيد ـ بحسبانه الدين الخاتم – الذي أعلى من مكانة العقل، بحيث جعله وريثا شرعيا للنبوة التي ختمت وتوقفت، شريطة أن يجتهد في ميراثها ضمن إطار مرن وقواعد عامة فحسب .
وكنت قرأت كلاما للدكتور حسن حنفي (أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة)، وتعليقا عليه للدكتور صلاح فضل( أستاذ النقد الأدبى)، حذا فيه الدكتور حسن حنفي حذو المستشرق الألماني (ليسينج)، حيث يرى أن (الدين قد اكتمل، وتسلم العقل المهمة منه)، وأرى أن الفكرة صحيحة، لكن تعبير الدكتور حسن حنفي عنها جاء معيبا وقاصرا، أما تعليق د. فضل على منشور د.حسن فقد جاء معيبا فى المعنى والمبنى.
رحم الله الرجلين.
XXX
وفى الومضة الثالثة يقول العلامة د. الشرقاوى:
تذكر أنك بصلاتك على النبِي تحقق لنفسك كرامة وشرفا ورقيا ومجدا لأنك تفعل مايفعله رب العالمين والملائكة المقربون (إنَّ الله َ وملائكته يُصَلٌون على النَّبِي).
وتذكر أن الصلاة الإلهية والملائكية على النبي عمل له صفة الديمومة والاستمرار(يصلون)، وليست عملا فائتا منتهيا.
وتذكر أنك بصلاتك الحقة على النبي تحجز لنفسك مكانا بين صفوة الخلق، المؤمنين بالله حقا (يا أيٌها الذين آمنوا صلٌوا عليه)، وأنك بصلاتك على النبي تعرج في أُفق الكمالات، بحيث تتلقى أنت الفيوضات والرحمات الإلهية، فيصلي عليك – أنت – الله رب العالمين (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)، وتذكر أن الصلاة على النبي مشفوعة بالسلام عليه: (صلوا عليه وسلموا تسليما).
وإني لا أعرف عملا ولا قولا في الدين يمنحك ما تمنحك الصلاة والسلام على النبي، لأن صلاتك عليه فرع اتباعك له.
فصلوا عليه حقا وصدقا وإيمانا ويقينا، وسلموا تسليما .