رغم أن الصراع مع اليهود فى فلسطين بدأ دينيا، ورغم كل الشواهد التى تؤكد أن جوهر الصراع هو الأرض المباركة والمقدسات الدينية، إلا أننا عشنا زمنا طويلا نتفادى هذه الحقيقة، ونحاول إقناع أنفسنا بأنه صراع قومي، عربي/ إسرائيلي، أو صراع وطني، فلسطيني/ إسرائيلى، حتى وصلنا إلى أنه صراع نفسى، قائم على حائط الكراهية المتوارثة، وإذا أسقطنا هذا الحائط فسوف ينتهى الصراع ويحل السلام.
لم يخدعنا أحد، كل الذين أنشأوا إسرائيل والذين حكموها والذين ساندوها كمشروع يهودي صهيونى منذ عام 1907 إلى اليوم يصرون على أنه صراع ديني، وأن الأسباب التى من أجلها زرعوا هذا الكيان فى بلادنا تندرج تحت اللافتة الدينية، وقد شاء الله تعالى أن تكون الجولة الحالية من الحرب فى غزة كاشفة لحقائق كثيرة، لعل أولها وأهمها حقيقة الصراع.
فى الأسبوع الأول للحرب توافد رؤساء أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا إلى تل أبيب ، متأثرين بما لحق بإسرائيل من وجع وانكسار، وأطلقوا وعودا سخية لتقديم كافة أشكال الدعم لإسرائيل حتى ترد الصاع صاعين، وتسترد كرامتها وكبرياءها، وبالفعل أرسلوا أساطيلهم حاملة أحدث ما أنتجوا من أسلحة فتاكة لم تستخدم بعد، كانت تصريحاتهم مشحونة بمفردات دينية، وممزوجة بروح صليبية، وكان الرئيس الأمريكى جو بايدن ـ الذى تفاخر بصهيونيته ـ هو الأكثر فجاجة، فقد تلبسته روح البابا أوربان الثانى مشعل شرارة الحروب الصليبية فى القرن الحادى عشر، بينما كان وزير خارجيته يعلن أنه جاء إلى إسرائيل ليس بصفته السياسية الرسمية، وإنما كيهودي.
لم يذكر المسئولون الغربيون الذين هرعوا إلى إسرائيل كلمة واحدة عن حق المقاومة فى الدفاع عن شعبها وأرضها ومقدساتها التى تنتهك كل يوم، وإنما كان كل همهم إسرائيل، التى هي فى الحقيقة مشروعهم الدينى فى قلب العالم العربى الإسلامى، ولو لم تكن موجودة لأوجدوها، كما أوجدوا من قبل ممالك صليبية عدة على أرض فلسطين، وقد عبر عن ذلك صراحة مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكى حين قال:” أنا كمسيحى أؤمن أن الكتاب المقدس يعلمنا بوضوح جدا أنه يجب أن نقف مع إسرائيل، نحن نؤمن بأن العهد الجديد يكمل العهد القديم، وأن الله سيبارك فى الأمة التى تبارك إسرائيل، وأننا يجب أن ندفع ثمن السلام فى القدس”.
نعم، هي بالنسبة لهم ليست حربا عادية كأوكرانيا مثلا، وإنما حرب دينية، ولذلك حين يتحدث رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى جنوده يتحدث كنبي من أنبياء إسرائيل، فيستدعى تعاليم ونبوءات توراتية تحرض على إبادة العرب والفلسطينيين وتهجيرهم وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، لأنهم ليسوا بشرا، وإنما هم وحوش ومخلوقات أدنى درجة فى سلم الإنسانية، ومن ذلك مثلا حديثه عن “نبوءة أشعياء” وحرب الخلاص من أهل الشر، والصراع بين ” أهل النور” و ” أهل الظلام”، وحديثه عن قتل ” العماليق” الذين أمر الرب فى التوراة بإبادة نسلهم ومحو أي ذكر لهم، مشيرا بذلك إلى أنهم العرب والفلسطينيون.
وقد ظهرت د. ليلى أبو المجد أستاذة الدراسات التلمودية والأدب العبرى بجامعة عين شمس فى حلقة تليفزيونية ـ مازالت متاحة على يوتيوب ـ لتفند الدلالات الدينية لهذه النبوءات، ولتؤكد أن إسرائيل تخوض “حربا دينية” بكل معنى الكلمة، وأن إطلاق نتنياهو اسم “عماليق”على العرب والفلسطينيين فيه تدليس ومغالطة لتبرير إبادة الشعب الفلسطين، فالعرب أحفاد إسماعيل والعماليق أحفاد إسحاق، وقد انتهوا ولم يعد لهم وجود، لكن اليهود يكذبون على الله، بالضبط مثل ادعائهم بأن فلسطين هى أرض الميعاد، وأنها وعد الله لهم، وأنهم ينفذون أمر الرب فى هدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان للتعجيل بظهور المسيح المخلص.
وتضيف إلى ذلك أن بوش الابن استخدم مصطلح “الحرب الصليبية ” فى غزو العراق 2003، زاعما أنها انتقام من السبي البابلى لليهود،وأن هذا الانتقام سيعجل بظهور المسيح، لكن بعد تدمير العراق لم يأت المسيح إلى الآن، وعلى المنوال نفسه تلجأ إسرائيل إلى توظيف الأساطير التلمودية لتبرير جرائمها، فتعلن أنها دولة خالصة لليهود طبقا للوعد الإلهى، وبالتالى من حق أى يهودى أن يفعل فيها ما يشاء، فبمجرد أن يدعى لنفسه حقا فى أرض أو بيت، يصبح هذا سببا كافيا لكي يطرد صاحب البيت ويتم تمليكه له.
ويذكرنا الأب مانويل شحادة مسلم أسقف القدس بأنها “حرب دينية”، ويعتب علينا عتابا لاذعا فى مقطع مصور يقول فيه:”نحن الفلسطينيين المسيحيين سلمنا أجدادكم المسلمين الشرفاء مفاتيح القدس، وتسلمنا منهم العهدة العمرية، نحن ثبتنا أمناء على العهد، وسنبقى كذلك، أما أنتم فماذا صنعتم بتلك المفاتيح؟ ولمن سلمتموها ؟ نحن سلمناها إلى أيدى أمير المؤمنين الطاهرة، وأنتم تسلمونها إلى أيدى الصهاينة الملطخة بدماء المسلمين والمسيحيين، إنها أرض الإسراء والمعراج، التى هي جزء من عقيدتكم الإسلامية، لكننا نعدكم نحن الفلسطينيين أن إسرائيل سترحل بعيدا عن أرضنا مهيضة الجناح، ذليلة بسواعد المقاومين الشرفاء”.
وفى الملتقى الفقهى الرابع الذى نظمه مركز الأزهر العالمى للفتوى الإليكترونية الأسبوع الماضى أجمع المتحدثون على أن النفير الغربي لمساندة العدوان الإسرائيلى على غزة يعنى أنها “حرب دينية”، ومن ثم هناك ضرورة لصياغة وثيقة إفتائية تؤكد الحق الدينى والتاريخى للإسلام والمسلمين فى القدس، وحق الحياة الكريمة والعيش الآمن للفلسطينيين بمختلف أديانهم فى فلسطين، ورفض التهجيروالإبادة التى يقوم بها الكيان الصهيونى، وقد بلغت به الوقاحة أن يطلب إقالة الإمام الأكبر بسبب موقفه المشرف ضد الحرب، وقال د. مصطفى الفقى المشارك فى الملتقى:” أنا مؤمن بأن الحرب التى نعيشها هي فى عمقها حرب على الإسلام، وهي حرب قديمة وعميقة يقودها اليهود”.
لماذا إذن نبتعد عن هذه الحقيقة ؟