فيما يَبدُو لي عَلى سَبيل التَوصيف الذَاتي ، اختلافاً مَهيباً بين الأمس واليَوم ، فصفحَةُ الأمس ستَبقى في خَلدي ومُخيلتي حَيةٌ بسرَائرها وسطُورهَا البَرَاقَة ، وَارفَةٌ مُخضّرة باسقَة ، هذا أمسٌ اجتمعّت فيه كل عنوَنة الأصّالة ، ذاك أمسٌ تربعت فيه جُل مدونة النبّالة ، أمسٌ أسرني إلى طُقوسه ورُموزه فَمَا بَرحتُ منه وما برحَ عني ، أمسٌ تبلوَرت منه سيكُولوجيَتي وتكَونت من ينَابيعه مُفرَدَاتي ، أمسٌ جذبني إليه الحَنين كُلما داهمَتني أهوال الحَاضر الآني ، ذلكم الأمسُ المَجيد البَعيد الذي احتَضنَ اللُغةَ العربية احتضّاناً حَميمّاً ، فلمّا كَان لها وعاءٌ وسمّاء ، غرّدت في معيَته الضّاد وأنبّتت من كل حرف بهيج ، وإنّ الضّاد التي أحصّنت شَرفَها بعُذوبة لسّانها فألبست مُعتنقيها شرف البَلاغة وتَاج الفصّاحة وفخر الخطّابة ، قد تَسَيدت ما قبل الإسلام وما بعده من أزمنة ، ضّادُ القرآن الكريم والحديث الشريف والتفَاسير ، التي غازلت إيقاع المعنى والمغزى فبَدَت للعَالمينَ في أكملِ وأجملِ مغنى ، ثُمَ هي الضّاد نفسَها التي انبّرى منها الجيل الحَالي وازدرى عنها ، مُستَبدلاً إيَاها بأبجَديَات الدّانتية الإيطّالية والسيرفَانتسية الإسبَانية والشيكسبيرية الإنجليزية والفُولتيرية الفرنسية ، فمع صَحوة التَعليم الأجنَبي الذي سَرى في المَدارس والجَامعات العَربية ، أمَطتُ اللثّام عن اللسّان العربي العَصري ، فوجدُته لا يُبين ولا يُدين إلا لطلَاسِم ورطّانَة الغَرب والأعَاجم سياقاً وحُروفاً ، وصارت العربية منه نَسياً مَنسياً ،،
لم يَحد الدارسُون وحدَهم في أغلب المؤسسات التَعليمية العَربية عن لُغتِهم الجَميلة فقط ، بل امتَدت الآفة لتشمل شَرّائح مُجتَمَعية مُتنَوعة ، فَرُبَ موظفٍ مُتَواضعٍ لا يَشكُر زميله إلا بالفرنسية ، وأخرى لا تُلقى التَحّايا إلا بعبارةِ بونّاسيرا الإيطّالية ، وثالثاً شَاذاً يَتعّاظم على العَربية مُعَظماً لكلمةٍ عبريَة ، ثُمَ حَلّت ثالثة الأثافي ، لما راجت العّامية بالنّابية في آن ، فحَسبُك من الذين تَقَزمت قَوامَهم وتذّللت ألسنَتهُم وتزلزّلت ، فما استسّاغوا من جوَامع الكَلم جُملةً تُطَهرّهُم وتُزكيهم ، فتَرَاهم يتَلعثّمون خلف المنّابر وأمام الفضّائيَات بكلمّاتٍ عبثيةٍ لا يَلقون لها بالاً ،،
امتزج العّامي بالنّابي في قالبٍ رَكيك ، وما بالُ صَفوة مُعَاصرة لا تُعير لأبجديات الفُصحّى كَلمةً ولا حَرفاً ، وحال نُخبةٍ مُنتَخبة لا تَتَرنم شفتّاها إلا بذميم الكَلم ، فلا يُميزُونَ الغثّ من السّمين ولا هم يعرفون قبيلاً من دبير ، ومئال أجيال قَادمة مُتَتَابعة تهوي بهم الريح في مكان سحيق ، يا آسفاه على لُغَةِ القُرآن الكَريم التي طُعنَت بخنَاجرَ مسمُومة غربيةٍ وشرقية في عُقر دارها ،،
تلك اللُغةُ التي تغنّى بها العَرب في سَالف العَصر والمَكَان ، تلكَ اللُغةُ التي حذَقتهَا القبائل والعَشّائر العربية قبل الإسلام مع رقة يسيرة في حواشي الكلم ، فما ظنُك بعدما اعتنقوا شرف الإسلَام فقد جمَلتهُم الضّاد تَجميلاً ، وطَوقّتهُم تَطويقاً، ودَثَرتهُم تدثيراً، إنها الفُصحَى اللينة اليَسيرة التى جَعلت سُحبانُ بن وائل يتقلد وسَام الفَرّادة من فَم مُعاويةَ رضي الله عنه ، مُلقباً إياه بأخطب العَربِ وأخطَب الإنسِ والجن ، لمّا وقف في النَاس خطيباً من بعد الظُهر حتى مشَارف العّصر ، صّامداً رّاسخاً مُتحكماً في ألفَاظه ضّابطاً لسجعهِ وجنَاسه ، مُقَاوماً مُقَومَاً هِنَاته ، تتَدَفق الكلمات من نوَاحيه عذبة مُوجزه مُتعَددة المذَاق ومُتَنوعة المشّارب ، لا تُخطئهَا آذانُ السَامعين ،،
أيتُها اللُغةُ الميمونة من شَرف القُرآن ، لأحرُفكِ العزّة والفَخر ، لما آمن بسحر تأثيرك أشهر طاغية في التَاريخ المُعَاصر ، إنهُ هتلر الذي لما أراد أن يُلهب حمَاس شعبهِ لخوض غمَار الحَرب العَالمية الثَانية ، التمس من الجموع مطلعاً لخُطبةٍ رنَانَة ، فقال له قائلٌ استَهِل خطَابك بمطلع سُورة القَمر ، فكانت تلك مطلع خُطبته العَصمّاء في أولها والصَلعّاء في أوسطها وآخرها ( اقتَربَت السَاعةُ وانشَقّ القَمرُ ) ،، مَا أجمَلُ العَربية لفظاً ومعنى ، وإنْ تثّاقَلت عليها واشمئزت منها العَرب الحَالية واللاحقَة ، طُوبَى للُغة الضّاد لُغةُ القُرآن ، ولُغةُ الحَديث الشَريف ، ولُغةُ التَفَاسير والتَدَاوينِ والدَوَاوينِ نَاصعةَ البَيَان ، ولُغَةُ هُودٍ وصَالحٍ وشُعيبٍ واسمّاعيلَ ومُحمدٍ خَاتَم الرُسلِ وأعظَمهُم ، ولُغَةِ أهل الجَنّةِ وكفَى ؟؟