::
ولم أرّ آفة أعظم فتكاً بالعرب سلفاً وخلفاً، من تلك الموسومة بوثّن الزعامة، فبرجس التعلق بتلابيبها تقَاتلَ القَوم، وتنَاحَرت القبائل، وتمّارت العشّائر، وانكبّ أرتالاً على وجوههم في النار بُكرةً وعشِياً، نكّالاً لعاقبة وبال كفرهم إلا أن يكُونوا زعماء….
قُبيل غزوة بدر قال الأخنّس بن شريق الثقفي لأبي جهل، يا أبا الحكم أترى محمداً يكذب ؟
فقال أبوجهل كلا ما عهدنا عليه كذباً قط، وكنا نسميه الصادق الأمين، ولكن إذا كانت السقاية في بني هاشم ثم تكون فيهم الرفادة ثم تكون فيهم المشورة ثم تكون فيهم النبوة ، فأي شيء لبني مخزوم؟
بهذا المنطلق الخطير صد أبوجهل عن عقيدة التوحيد مستغشياً ثيابه، متبختراً في بيانه، حقداً وحسداً على اختيار الله لعبده محمد صلى الله عليه وسلم بحمل الرسالة، مع إقرار أبي جهل بتمام صدق النبي ، ولكنها غطرسة عبادة وثن الزعامة…
حدث ذلك تماهياً مع أميةَ بن أبي الصّلت الثقفي، الذي ادعى الإيمان برسالة مُحمد لساناً وبياناً، غير أن قلبه كان يُنكر كفراً وحقداً وتصلفاً …
لذلك قال عنه النبي ( آمن شعره وكفر قلبه)..
وكأن القبائل جُلها ظلت ناقمة حاقدة على اختيار فتى قريش اليتيم اللطيم بمعتقدهم بشرف الرسالة، فعبرّ القرآن صدقاً لما تكنه صدورهم حقداً، زُرافَاتٍ ولِبداً ووحدّاناً ( وَقَالُوا لَولَا نُزلّ هذا القُرآنَ عَلى رَجُلٍ منَ القَريَتينِ عَظيم ) الزُخرف 31
يقصدون رجل مكة الوليد بن المغيرة ، ورجل ثَقيف أميةَ بن أبي الصّلت…
مع إثبات تصديقهم للنبي وجحودهم وحسدهم إياه في ذات الوقت ( فإنَهُم لَا يُكَذبُونَكَ وَلكنّ الذينَ ظَلمُوا بآيَاتِ اللّهِ يَجحَدُون) الأنعام 33
لكن الله الذي يعلم من خلق، الذي يخلق ما يشاء ويختار، كانت له حكمته في اختيار رسله ( اللّهُ أعلَمُ حَيثُ يَجعلُ رسَالتَه) الأنعام 124
وظل وثن الزعامة يسري في نفوس بعض العشائر بعد وفاة النبي الكريم، فهذا مسيلمة الكذاب، الذي أطلق على نفسه رحمنُ اليمامة، قال له قومه نعلم أنك كاذب ولكنهم رجّحوا كذبه على صدق النبي انتصاراً لوثن الزعامة، فقالوا كذاب ربيعة خيرٌ من صادق مضر…
وتحت وطأة وجفوة عبادة وثّن الزعامة، استَباحَ العباسيون أخضر ويابس الأمويين، ولطخوا أياديهم بدماء سائر الأمويين كباراً وصبياناً، وحاق المأمون بأخيه الأمين، وقتله صبراً إيهاماً بالخُلد في بريق السلطة،…
وها هي الآفةُ قد نمَت وربَت وأنبتَت من كل إثم مريد، فمبتغى تحصيل الزعامة هو الآكد الأكيد، سواءً كانت متناهية الصغر أو متنامية الكبر، فلهيبُ تعظيمها على الأقطار العربية يَرمي بشَرّرٍ كالقصر…..