انبَثقَت من قَريحةِ البُنيَان الأفلاطوني لَبنةً على بُساط المَحَك الفلسَفي، فخلَبت المطمَح الخيالي للأفلاطونية الجامحة، تائقين لبلورة أكمل بُنيانٍ مُجتمعي بدثار وشعَار المدينةِ الفاضلة…
دبلَجَ أفلاطون وأَطرّ حلم مدينته الفاضلة، مُعولاً على قيم إنسانية خاصة، تتسق بين الخيال والواقع، وتوائم النظرية بالتطبيق، والحق أن هذه المدينة الفاضلة لم ترّ حيز الحقيقة المُجردة، لا التي تغيّاها أفلاطون في خَلدِه وحلمِه، ولا التي ناشدها الطامحون من بني جنسه من بعده..
لتجد أُنشودة المدينة الفاضلة على إيقاعها اللفظي والمعنوي، ضَالتَها في اسمها الحرفي المُزَخرَف بوهيج النور.. المدينة المنورة .. ..
وما كانَ للمدينة المنورة أن تكون فاضلة بحق وصدق، إلا بقدوم رسول الله ومعشر المهاجرين ليؤلفوا على ثرَاها أعظم تلاحُمٍ وتنَاغُمٍ بين مُجتمعٍ مُستَضيف وآخرُ ضَيف…
كرسَ النبي صلى الله عليه وسلم أكملُ بُنيَانٍ مجتمعي عرفه التاريخ، قوامه المهاجرين والأنصار، الذين عزفوا أجمل ألحان المدينة الفاضلة سلوكاً ومسلكاً، تآخياً وتلاحماً، إيثاراً وتراحماً، إقداماً وتألقاً،،
في مدينة رسول الله الفاضلة حق فضلها، كان الجميع في سباق محمود على جوانب الخير، فيقترعون لإحراز قصب السبق في الجود والإنفاق، ونيل شرف الجهاد، والإيثار أبداً، وعدم الاستئثار مطلقاً، فنزلت فيهم آيات بينات باهرات، تُتلى إلى يوم الدين……
لمثل هذا تبَوءّت المدينة المنورة على عهد رسول الله مقام الفرادة على ما سواها في كل التاريخ، سلفاً وخلفاً، كفضل الثريم على سائر الطعام…
في مدينة رسول الله الفاضلة آثر أبوالدحداح رضي الله عنه على نفسه ستمائة نخلة بنخلة في الجنة، لكي يستقيم حائط رجل فقير في المدينة..
وفي مدينة رسول الله المنورة الفاضلة، عرض الأنصاري سعد بن الربيع رضي الله عنه على المهاجري عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ، أن يقتسم معه شطر ماله، بل ويختار أجمل زوجة عنده فيطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجها أخيه المهاجري….
وفي مدينة رسول الله المنورة الفاضلة المفضالة، توارث المهاجرون والأنصار بعضهم بعضا، بقانون المحبة والمودة، لا بقانون التعصُب والنَسب…
وفي مدينة رسول الله الفاضلة الفُضلَى المفضّالة، ترسمت أعظم صور النبّالة والفرّادة، المُروءة والشهَامة، البر والخير، الإيمان والإحسان ، العلم والحلم، الحكمة والمودة، مهاجرين وأنصار في بوتقة تماثل وتكامل بمدعى للافتخار ..
كل هذه الكواكب البشرية مهاجرين وأنصار برفقة قمرهم المتلأليء النبي المختار، أعطوا أكمل وأجمل تصور للمدينة الفاضلة ، وأدق وأرق تفسير للمدينة الفاضلة، التي اعتسف الوصول إليها أفلاطون ، واعتسف كذلك اللاهجون ، لتجد مُستقرها ومُستودعها في أحضان رسول الإسلام ومائة وأربعة عشر ألفاً من المهاجرين والأنصار… اللهم باستثناء الرعيل الأول من الصحب الكريم الذين ماتوا في مهد الدعوة بمكة، وباستثناء سبعة عشر منافقاً فقط ماتوا كمداً على قارعة المدينة….