على مدى أكثر من مئة يوم من الصمود الأسطورى أمام آلة الحرب الإسرائيلية الأمريكية، ومن الأداء البطولى للمقاومة، استطاعت غزة الأبية أن تثبت وجودها كقوة عسكرية وسياسية، وتفرض صياغة جديدة لمعادلة الصراع العربى الإسرائيلى، وترفع صوتها إلى أسماع العالم، بعد أن ظن العدو أنه أغلق ملف القضية الفلسطينية للأبد.
هذا القطاع الضيق المحاصر، صغير المساحة المكتظ بسكانه، نجح فى أن يكون محور اهتمام العالم، باعتباره البؤرة الأكثر تأثيرا فى السلم والأمن الدوليين، وأن يغطى على ما عداه من حروب وصراعات فى مناطق أخرى، وبين دول هي الأقوى والأهم، وأحدث تغييرا مشهودا فى الداخل الفلسطينى والداخل الإسرائيلى، وعلى الصعيدين العربى والعالمى.
على المستوى الفلسطينى كانت حرب غزة العامل الحاسم فى توحيد الصف، بعد محاولات فاشلة للمصالحة، والآن تحارب فصائل المقاومة جنبا إلى جنب، وتقف مدن وقرى الضفة الغربية مساندة لغزة، ولم تعد السلطة الفلسطينية مناقضة للمقاومة، ورفضت التحريض الأمريكى الإسرائيلى لإدانة طوفان الأقصى، كما رفضت اعتبار حماس منظمة إرهابية، مدركة أن هذا الهجوم هو الذى أحيا القضية، وأعادها إلى صدارة المشهد العالمى.
ورغم الخلافات السياسية والأيديولوجية فقد شهد خطاب السلطة تجاه المقاومة تحسنا كبيرا، وكذلك خطاب المقاومة تجاه السلطة، ما أدى إلى أن تفتح الضفة الغربية جبهة للاشتباك مع العدو لتخفيف الضغط عن غزة، وأن يرتفع مستوى الوعي الفلسطينى بضرورة اللحمة الوطنية، إلى الدرجة التى جعلت الكنائس الفلسطينية تمنع الاحتفال بأعياد الميلاد، حدادا على الشهداء واحتجاجا على العدوان، وتبعها فى ذلك كثير من الكنائس العربية المتضامنة، وإلى الدرجة التى جعلت راهبا فلسطينيا يعلن فى برنامج الإعلامى اللبنانى طونى خليفة : “أنا رجل دين نعم، لكنى قبل ذلك مواطن فلسطيني، مستعد لحمل السلاح إذا استدعى الأمر، لأقاتل إلى جانب الشيخ المسلم، كي ندافع عن شعبنا ونحرر بلدنا ونقيم دولتنا”.
وفى إسرائيل كسرت غزة أنف نتنياهو وحكومته المتطرفة، وأسقطت هيبتهم، فصاروا هدفا للسخرية والهجوم، واتسعت دائرة المعارضين لهم بعد أن فشلوا فى تحقيق الأهداف التى أعلنوها فى بداية الحرب، وانقلب أهالى الأسرى على الحكومة والجيش، وازدادت الخلافات العلنية بين العسكريين والسياسيين، وتوقفت الحياة تماما فى بعض المدن والمستوطنات، وصار المجتمع الإسرائيلى برمته فوق فوهة بركان.
وعلى الصعيد العربي أوقفت غزة مسيرة التطبيع المجاني مع إسرائيل، وقال السفير السعودى فى لندن الأمير خالد بن بندر: “لن يكون هناك تطبيع بلا ثمن، والثمن هو إقامة الدولة الفلسطينية”، وفى خط مواز تحقق إجماع عربي على رفض التهجير وتصفية القضية، ولكي لا تنفرد إسرائيل بالمقاومة انفتحت جبهات أخرى للحرب فى اليمن والعراق وجنوب لبنان، الأمر الذى سبب إزعاجا شديدا لإسرائيل وحلفائها.
ورغم تأكيد أمريكا على عدم توسيع نطاق الحرب، إلا أنها خضعت أخيرا للمخطط الإسرائيلى، وتورطت ـ ومعها بريطانيا ـ فى توجيه ضربات صاروخية للحوثيين، قد تفضى إلى حرب مفتوحة تمتد نيرانها إلى قواعد أمريكية وبريطانية، وقد يتسع نطاقها بدخول أطراف أخرى فى الصراع، بما يضع العالم على شفا حرب عالمية ثالثة.
ومنذ السابع من اكتوبر كان هناك اصطفاف أمريكي أوروبي غربي على مستوى الساسة مع إسرائيل، لكن بعد تطور الصراع فى غزة واستشهاد أكثر من 24 ألفا من المدنيين، وتدمير المستشفيات والمدارس والمنازل ومراكز الإيواء، تغيرت أوضاع كثيرة، بفضل صحوة الشعوب، وخرجت تظاهرات شعبية عديدة احتجاجا على انحياز الحكومات للإجرام الإسرائيلى، خصوصا بعدما انتشرت الرواية الفلسطينية المغايرة حول الصراع، وتأكدت الشعوب أن إسرائيل لا تمتلك الحقيقة الكاملة، ولا تقول الصدق المطلق، وأن جيشها أبعد ما يكون عن المبادئ الأخلاقية للحروب كما تدعى.
وبسبب هذا التغيير عادت أمريكا تذكر إسرائيل بالحاجة إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وقال وزير خارجيتها أنتونى بلينكن فى جولته الأخيرة بالشرق الأوسط إن “على نتنياهو أن يختار بين الخطة الأمريكية لحل الدولتين، أو يستجيب لوزرائه المتطرفين”، وسمعنا لأول مرة عن استقالات احتجاجية لسياسيين وإعلاميين فى أمريكا وبعض الدول الداعمة لإسرائيل.
ويقول تقرير لشبكة ” بى بى سى” البريطانية إنه بسبب حرب غزة يبدو المشهد السياسي ملتبسا فى العالم برمته، وتغيرت مواقف اليمين واليسار فى الغرب، وصارت أحزاب اليمين أكثر تطرفا فى انحيازها لإسرائيل، باعتبار اليهود جزءا من الهوية البيضاء والحضارة اليهودية المسيحية، يتبنون ثقافة المساواة بين الجنسين ويعترفون بحقوق المثليين، أما الأحزاب اليسارية التى كانت تاريخيا داعمة لإسرائيل فقد أصبحت أكثر صراحة فى وقوفها مع القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية شعب يقاوم من أجل التحرر، وقد طالب بعض رؤساء هذه الأحزاب علنا بمحاكمة نتنياهو وحكومته.
لكن التحرك الأكثر فاعلية جاء من دولة جنوب إفريقيا، التى تقدمت بدعوى ضد إسرائيل فى محكمة العدل الدولية، تتهمها بارتكاب جرائم (إبادة جماعية) فى غزة، وهو تحرك غير مسبوق فى تاريخ القضية الفلسطينية، تدعمه الدول العربية والإسلامية والدول المحبة للعدل والحرية فى كل القارات، وستكون له توابع مهينة لإسرائيل تزيدها عزلة وانكسارا، سواء حكم القضاة لصالح الدعوى أو استجابوا للضغوط الأمريكية الغربية التى تستهدف إنقاذها وإفساد المحاكمة، ويكفى أن هذا الإجراء دفع نتنياهو إلى تراجع مذل عن تصريحاته المتغطرسة، معلنا أنه لا نية لديه لاحتلال غزة أو تهجير أهلها.
المعركة هذه المرة ليست ككل مرة، وقد اعترف هاليفى رئيس الأركان الإسرائيلى بأن “الحرب معقدة، والمقاومة استعدت للقتال بطريقة منظمة تحت الأرض وفوق الأرض”، ونضيف إلى ذلك أن العالم أيضا تغير من حولنا، ولن تكون القضية الفلسطينية بعد الحرب كما كانت قبلها.