يقول الفيلسوف اليوناني الشهير هيراقليطس :
” أنت لاتستطيع أن تنزل نفس النهر مرتين “.
والمعنى أنك لاتستطيع أن تتشبس بالموجة التي تعجبك
وتتعلق بالحياة التي تحبها وتتمسك بالأصدقاء الذين لا تتآلف إلا معهم.
فعندما تظن أنك أحكمت قبضتك على ذات الموجة التي تريدها لا تلبث موجة أخرى أن تجرفك ولا يلبث تيار الماء أن يتجدد تحت قدميك.
فكل شيء في الوجود – كما يقول الفيلسوف الباكي – في صراع وتغير دائمين.
فالنهر لا يبقى نفس النهر وأنت أيضا لا تبقى على ما أنت عليه ف ” حياتك موت لغيرك وموتك حياة لغيرك”.
فمنذ شرخ الشباب لم أجلس على المقهى البلدي بشكله القديم.
أخذت مكانه الكافيهات الحديثة وانتزعه من أولويته في حياتنا تفرق الأصدقاء ومشاغل الحياة وهموم الأولاد وضعف الصحة.
بالأمس حاولت أن أكذب هيراقليطس ففشلت.
أردت أن أنزل نفس النهر وأمسك بنفس الموجة وأستمتع
بدفء نفس الشاطئ وأصب على جسدي المتعب نفس الماء فلم أنجح.
اختلست لحظات من الزمن وجلست على مقهى الغلبان الشهير في شبين الكوم فكنت أكثر غلبا من اسم المقهى.
كان معي ابني أحمد .. طلبنا كوبين من الشاي وسرحت في ذكريات “القهوة البحرية” قبل أربعين عاما.
أين الأصدقاء الذين كانوا يجعلون للحياة معنى ويساعدونك في البقاء على قيد الأمل.
أين مني مجلس كانوا يملأونه صخبا وودا وفرحا وبهاء.
مات عيد سنبل ومات وحيد الفخراني ومات سمير عبدالله ومات آخرون لن أذكرهم، فكفى بالمقال مافيه من وجع شخصي لا أريده أن يصل للقارئ.
اختفت مداعبات الطاولة وتوارت مشاكسات الشطرنج وخبت مكايدات ترابيزة البنج.
انتهت خلافاتنا حول أصوات المقرئين والمطربين واهتمامات كتاب أعمدة الرأي.
خلص الكلام في الرياضة والثقافة والكتب الجديدة ونفس الحكايات والمواقف التي نتبادل روايتها كل
ليلة ويضع كل منها عليها بصمته الخاصة.
أعجب كثيرا من الذين يقولون عند تذكر عزيز رحل أو صديق انتقل للعمل في بلد آخر “الحياة لابد أن تستمر”.
هي بالفعل تستمر ولكن بعد أن تفقد جمالها والكثير من ألقها وتصبح أكثر جفافا وقسوة وبرودة.
انتهينا من الشاي .. حاولت أن أكذب هيراقليطس مرة أخرى ففشلت وغادرت المقهى وأنا أردد معنى مشابها ل فاروق جويدة :
العطر عطرك والمكان هو المكان ..
لكنني ماعدت أشعر في ربوعك بالأمان ..
شيء تكسر بيننا .. لا أنت أنت ولا الزمان هو الزمان.