يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يبدو متماسكا أمام الضربات والضغوط التى يتعرض لها من الداخل والخارج بشأن صفقة الأسرى، فلا يجد وسيلة غير الهروب إلى الأمام، ورفع سقف التوقعات، بالحديث عن تحقيق ما أسماه (النصر المطلق)، كشرط لإيقاف الحرب، والتأكيد على أن هذا (النصر المطلق) يعنى “سحق حماس تماما للحفاظ على أمن إسرائيل وجيرانها، وفتح الطريق أمام مزيد من اتفاقات السلام التاريخية التى تنتظر على الأبواب، وإذا لم يحدث هذا فإن مجزرة تالية تقوم بها حماس ستكون مسألة وقت، وساعتها سوف تحتفل حماس وإيران وحزب الله، ويقوضون الشرق الأوسط”.
وكل من له أدنى دراية بالحرب الدائرة حاليا فى غزة يعلم أن ما يسميه نتنياهو (النصر المطلق) ليس إلا أضغاث أحلام، وهو تعبير لا يتحدث به أحد غيره، فحماس ومعها فصائل المقاومة لم تعد مجرد وسم وعنوان، وإنما هي كيان قوي، له حضور فكري وسياسى ونضالي، وقد أثبتت وجودها وجدارتها فى ميادين الحرب والتفاوض، وصارت القوى العظمى فى العالم تدرس مشروعاتها ومقترحاتها، وتنتظر ردودها على المبادرات، وهو ما يؤكد أنها صارت طرفا فاعلا لايمكن تجاهله، فما بالك بأسطورة القضاء عليه، وتحقيق (النصر المطلق).
نتياهو يكذب على قومه وعلى حلفائه الغربيين، حين يرد على المطالبين له بالاستجابة لصفقة تبادل الأسرى قائلا: “أنا أركز اهتمامي بأمر واحد رئيس، هو (النصر المطلق)، نحن فى الطريق إلى هذا النصر، ونتقدم نحوه طيلة الوقت، يوجد هنا وهناك محللون يقولون إن هذا غير ممكن، لكن من المهم أن تعرفوا أنه صار فى متناول اليد”.
لقد اعترف رئيس الموساد الإسرائيلي السابق يوسي كوهين، وإيهود باراك وزير الدفاع ورئيس الوزراء الأسبق، ومعهما ثلة من الخبراء العسكريين الإسرائيليين بأن المقاومة تفوقت ميدانيا على الجيش الإسرائيلى، وأن إسرائيل تحتاج إلى خمس سنوات لكي تسترجع عافيتها بعد حرب غزة، وأنها ستدفع ثمنا باهظا لاسترجاع الرهائن.
ويعود تفوق المقاومة إلى خمسة أسباب متداخلة: أولها الإعداد الطويل والدقيق للإستراتيجية الهجومية والدفاعية، وثانيها حفر الأنفاق التي أصبحت مدنا تحت الأرض لن تستطيع إسرائيل تدميرها كلها مهما فعلت، وثالثها استفادة المقاومة من التجارب السابقة مع العدوان الإسرائيلي المتكرر، وأخذ الدروس من تكتيكاته العسكرية ودراسة جوانب النجاح والفشل لديه، ورابعها أن قيادة المقاومة أصبحت بيد الأجنحة الميدانية لا بيد المكاتب السياسية، فقادة المقاومة اليوم كلهم من غزة، وممن ذاقوا ويلات القصف والعدوان، ودرسوا العقلية الصهيونية، وممن دخلوا سجون إسرائيل وعرفوا التوحش في التعذيب والمعاناة، فاقتنعوا بأن الطريق إلى النصر هو السلاح أولا ثم التفاوض، وخامسها تحقيق التفوق الإعلامي للمقاومة على الجيش الإسرائيلى الذي ثبت فشله وكذبه إعلاميا على أكثر من مستوى، ويرجع هذا إلى التوظيف الذكي لتكنولوجيا الإعلام الجديد.
وبهذا التفوق سقطت أوهام الذين كانوا يشككون في المقاومة، ويسخرون من قدراتها، ويؤمنون بأن الجيش الإسرائيلي لايقهر، لأنه يمتلك الأسلحة الأكثر تطورا فى العالم، ومعه الولايات المتحدة وأوروبا، ويصدقون الأساطير التى يروج لها نتنياهو حول (النصر المطلق) وسحق المقاومة، فى حين أثبتت المقاومة بأسلحتها التقليدية والمحدودة قدرتها على أن تضع الدولة الإسرائيلية على حافة الهاوية، وتجعل أصدقاءها يهرعون إليها خوفا من التفكك والانهيار.
وبينما يضع معظم السياسيين والعسكريين فى إسرائيل قضية استعادة المحتجزين لدى المقاومة على رأس الأولويات، حتى لو استدعى الأمر القبول بشروط صفقة التبادل وإيقاف الحرب، يصر نتنياهو على القفز إلى أقصى نقاط التشدد والغطرسة، مؤكدا على لاءاته الثلاث: “لا لوقف الحرب، لا للانسحاب من غزة، لا لإطلاق سراح آلاف المعتقلين فى سجون إسراائيل”، وهو يعلم جيدا أن هذه الشروط من المستحيل أن تقبل بها المقاومة، وبالتالي لن يستطيع تحقيق (النصر المطلق)، لكنه يراوغ بهذا التعبير لإطالة أمد الحرب، ريثما يحقق بعض الإنجازات التي يمكن أن تضمن له الخروج الآمن إلى التقاعد، فوقف الحرب دون تحقيق (النصرالمطلق) يعني أن تحل به ثلاث كوارث متتالية: خسارة السلطة، والخضوع للجان التحقيق فى تقصير الأجهزة الأمنية أمام طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، والمحاكمة فى تهم الفساد والرشوة التى تلاحقه هو وزوجته.
ومع أن كثيرين من أصدقاء إسرائيل يرون ـ كما اعترف نتنياهو نفسه ـ أن (النصر المطلق) هدف مستحيل، إلا أن ذلك لا يقلل من خطورة إلحاح نتنياهو على هذا النصر المستحيل، لأن الجيش الإسرائيلى سوف يترجم إلحاح نتنياهو إلى مزيد من القصف والدمار والتهجير والإبادة والمذابح، ويستمر فى ذلك طالما الهدف لم يتحقق، استنادا إلى قاعدة “ما لا يأتي بالقوة يأتي بالمزيد من القوة”، وبذلك يتحول (النصر المطلق) إلى أخطر وأفظع هدف يمكن تخيله، لمجرد أنه شبه مستحيل، ولأنه يتزامن مع توجيه العدوان إلى رفح ذات الكثافة السكانية العالية، حيث يتجمع فيها أكثر من مليون ونصف المليون من النازحين المدنيين المشردين.
إن تصعيد حرب الدمار والإبادة نحو غاية لا يمكن الوصول إليها، قد يتحول إلى «حرب لا تنتهي»، ينفلت فيها عقال نتنياهو لأشهر وسنوات إن لم يجد من يلجمه، بينما تظل أمريكا تبيع لنا كلاما ووعودا كاذبة، وتعطى كل الدعم العسكري والمخابراتي والاقتصادي والسياسي للعدوان الإسرائيلي، وهي إلى الآن لم تطلب وقف الحرب، ولا تتحرك مع حلفائها إلا من أجل إطلاق الرهائن المحتجزين، كأنهم لايرون حرب الإبادة وجرائم التدمير والقتل العشوائي للأطفال والنساء والعجائز فى غزة، ولا يسمعون أنين المشردين والمعتقلين الفلسطينيين.