بغض النظر عن التباينات بين طبيعة الأنظمة السياسية، فقد أصبحت جميعها بحاجة إلى تكثيف العمل الدبلوماسي على مستوى القمة. ساعد على ذلك تزايد حالة الاستقطاب على الصعيد الدولي، وكثرة الفعاليات داخل المنظمات، والتكتلات الدولية، والضغوط السياسية والإعلامية، وتعدد المناسبات التي أفسحت المجال للملتقيات الجماعية بين القادة والرؤساء، وتزايد حاجة الدول إلى استعراض ذاتها وقدراتها التنافسية اقتصاديا وتجاريا، وكجزء من صناعة الصورة وحملات العلاقات العامة. وتتمثل أبرز الأسباب التي زادت من دور الدبلوماسية الرئاسية بمصر في مجموعة من الأسباب، بعضها يخص مصر، وبعضها يتعلق بالتطورات العالمية بشكل عام، تتمثل فيما يأتي:
- التحولات في طبيعة النظام السياسي: أدخلت ثورة 30 يونيو، مستجدات على طبيعة نظام الحكم في مصر، جعلته أقرب إلى النظام القيادي، الذي يعتبر فيه الرئيس زعيما للدولة وقائدا للثورة، وتراجع نمط الرئيس البيروقراطي الذي يدير بنمط أقرب إلى اللامركزية. ومنحت الأوضاع السياسية في مصر بعد 30 يونيو الرئيس قدرات استثنائية، بعضها جرت مأسسته بحكم الدستور، وبعضها اكتسبه الرئيس بحكم دوره القيادي في الثورة. وساعد على تعزيز دور الرئيس في السياسة الخارجية ما واجهته الدولة المصرية من مشكلات في الاعتراف الدولي بعد 30 يونيو، والحاجة لتأكيد الشرعية الدولية للثورة. ولم يكن بالإمكان مواجهة ذلك دون الدبلوماسية الرئاسية، التي عملت على كسر الطوق السياسي وإعادة كسب الاعتراف. لذلك لم يكن غريبا أن يبلغ حجم زيارات الرئيس الخارجية في السنة الأولى له في الحكم 2014 – 2015 رقما قياسيا فاق حجم الزيارات الرئاسية للخارج في السنين التالية(3)، حيث برز اهتمام مؤسسة الرئاسة في هذه السنة بإثبات الوجود وعرض وجهة نظر مصر على الصعيد الدولي، عبر خطاب سياسي وحقوقي جديد، تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي تقديمه في المحافل الدولية
- الأزمات والتحولات الجيوسياسية: تزايد دور الدبلوماسية الرئاسية في منطقة الشرق الأوسط، بقدر تزايد احتياجات المنطقة إلى تكثيف التفاعلات على الصعيد الرئاسي، مع تزايد التفاعلات ذات الطبيعة الخاصة (الأمنية والعسكرية وتلك الخاصة بالطاقة وترسيم الحدود البحرية)، وذلك في ظل ازدياد سياسات المحاور والاستقطاب داخل المنطقة وبين دولها والعالم. وعظم من ذلك تفجر حدة التوترات والأزمات في النطاق الجيوسياسي الإقليمي وفي الجوار المباشر لمصر: شرق المتوسط، البحر الأحمر، اليمن، ليبيا، والسودان، وهي قضايا أمن قومي وسياسة خارجية. وفي هذه الأزمات ومساحات الاشتباك كان للرئاسة المصرية مبادرات ومواقف شهدت تحركا دبلوماسيا كثيفا حولها، وقام الرئيس بجولات عديدة في الخارج، واستقبل عديدا من قادة ومسؤولي تلك الدول في مصر.
- التداخل بين القضايا الخارجية والداخلية: شهدت مصر تداخلا كبيرا بين قضايا السياسة الخارجية والقضايا الوطنية في الداخل. وعلى الرغم من أن علاقة التأثير والتأثر بين الوضع الداخلي والسياسة الخارجية هي حقيقة تعرفها كل الدول، فإن الحالة المصرية كان لها خصوصيتها بعد عام 2014، بعدما أصبح الوضع الاقتصادي والتنمية، والتعمير وبناء المشروعات القومية، يشكل محور الرؤية الشاملة التي تتمحور حولها مختلف الجهود الوطنية(4). وعلى الرغم من المقولة التي تشير إلى أن السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية، فإن السنوات الأخيرة شهدت زحفا للقضايا الداخلية على قضايا السياسة الخارجية، فأصبح بناء المشروع المصري في الداخل مجال جهد وطني كبير، وبندا رئيسيا من الخطاب الرئاسي في الداخل والخارج، وأصبح الوضع الداخلي أكبر مؤثر في صياغة السياسة الخارجية لمصر، وربما أصبح أهم أهداف زيارات الرئيس الخارجية الذي يصحبه الرئيس معه في جولاته. وإلى حد كبير، جعلت ظروف مصر بعد عام 2014 السياسة الخارجية مخدّمة على المصالح الاقتصادية، وعلى المشروع الوطني الداخلي بشكل عام.
- القضايا الجديدة في السياسة الخارجية: لم تعد السياسة الخارجية تقتصر على القضايا الكلاسيكية كالمواقف من الأزمات السياسية والمشكلات الدولية، على نحو ما كانت تعكسه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والمنظمات الإقليمية في خمسينات وستينات وسبعينات القرن العشرين؛ حيث تقدمت الملفات الاقتصادية، والتنموية، والأهداف الإنمائية والبشرية وطغت على أهداف كثير من المنظمات الدولية، على أثر انتهاء الحرب الباردة ومع أوائل تسعينات القرن العشرين، واحتلت صدارة المشهد الدولي، وأصبحت التكتلات الاقتصادية الدولية والتجمعات الإقليمية ساحة نشطة للقمم الرئاسية. ودفعت موجة العولمة والتشابك الاقتصادي، بالقضايا الاقتصادية، والمجتمعية، والعولمية إلى صدارة قضايا السياسة الخارجية. وإلى حد كبير أصبح القادة والرؤساء يمارسون أيضا – وربما بالأساس- أدوار وزراء الاقتصاد والوزراء الأوائل. وبعدما كانت العقائد، والأيديولوجيات، وسياسات المحاور تجُر خلفها توجهات الدول ومواقفها السياسية، أصبحت قضايا التنمية، والاقتصاد، والمصالح المتبادلة هي الموجه الأساسي للسياسات والمواقف.
وفي سياق ذلك تكاثر توظيف مصطلحات «عسكرة» و«أقصدة» و«أمننة» السياسة الخارجية، وتشكلت خريطة من المصالح والقضايا التى تتطلب لقاءات مستمرة بين مراكز القرار الأعلى(الرؤساء والقادة).
ولقد عزز ذلك من أدوار الدبلوماسية الرئاسية في مصر تحديدا، بالنظر إلى الحاجة الملحة لتوفير الدعم الاقتصادي والمالي لمشروع البناء والتعمير الوطني والمشروعات الكبرى في الداخل.
- تزايد دبلوماسية القمم والمؤتمرات: يصعب حصر عدد المؤتمرات التي يدعى إليها رؤساء الدول في المنظمات الدولية والإقليمية، وفي التجمعات والمنظومات الثنائية والمتعددة. وبالنسبة لمصر برز دور الدبلوماسية الرئاسية خلال اجتماعات وقمم جماعية كثيرة، من ذلك البريكس، التي حضر الرئيس السيسي قمتها التاسعة في سبتمبر 2017 بالصين، وقمتها الـ 14 بالصين أيضا في يونيو 2022، وقمة «محيط واحد» في فبراير 2022 المخصصة للحفاظ على البيئة، والقمة الأفريقية – الأوروبية في فبراير 2022 بفرنسا، والقمة العربية الأمريكية في جدة التي جمعت قادة مصر، والعراق، والأردن، ودول مجلس التعاون الخليجي، والولايات المتحدة الأمريكية في يوليو 2022، ثم حوار «بطرسبورج» للمناخ، والقمة العربية الصينية الأولى بالمملكة العربية السعودية في ديسمبر، والقمة الأمريكية الأفريقية، ثم قمة الحكومات في دولة الإمارات في فبراير 2023.
وكان أبرز تجليات دبلوماسية القمم والمؤتمرات الدولية القمة العالمية للمناخ COP27، التي عقدت بمدينة شرم الشيخ المصرية في نوفمبر 2022، والتي التقى خلالها الرئيس السيسي بعشرات من قادة الدول، وحضرها عشرات الآلاف من المسؤولين والمشاركين على مستوى العالم، وخلالها أطلق الرئيس السيسي الدعوة المصرية إلى وقف النار بين روسيا وأوكرانيا.
إن تحليل التحركات الدبلوماسية لدولة الإمارات العربية المتحدة يجب أن يبدأ من قراءة سياسية جيدة للأهداف الاستراتيجية الإماراتية فـي الخمسينية الجديدة، فالإمارات التي احتفلت مؤخرًا باكتمال الخمسينية الأولى من عمر البناء الاتحادي، قد تحولت إلى نموذج عالمي وقاطرة للمستقبل، حيث أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو» اعتماد اليوم الوطني للإمارات (الثاني من ديسمبر) يومًا عالميًا للمستقبل، لتتوج الإمارات رسميًا كرائد عالمي فـي مجال استشراف المستقبل. بما يعكس قناعة المجتمع الدولي بأن الإمارات باتت تمثِّل رمزًا للنجاح واستشراف المستقبل، وأنها قادرة على قيادة الجهود الدولية فـي مجالات واعدة، مثل: الابتكار والإبداع والتميز والبحث العلمي والعلوم والتكنولوجيا، لما حققته من طفرات نوعية كبرى تعد مصدر إلهام ومحفزات للأجيال الجديدة فـي مختلف دول العالم؛ فالإمارات تمتلك استراتيجيات للمستقبل فـي مختلف المجالات، التعليم والفضاء والاقتصاد والعلوم المتقدمة والطاقة والصحة والاقتصاد والبيئة والأمن الغذائي والمائي والذكاء الاصطناعي وغير ذلك، فضلًا عن منظومات متكاملة واستراتيجيات متخصصة لاستشراف المستقبل، وتهدف إلى الرصد المبكر للفرص والتحديات فـي مختلف القطاعات الحيوية فـي الدولة، وبناء نماذج مستقبلية فـي مختلف المجالات، وتعزيز الإمكانات على المستوى الوطني فـي تخصصات ترتبط باستشراف المستقبل، وعقد الشراكات التخصصية على مستوى العالم فـي هذا المجال.