ان التحركات الدبلوماسية المتسارعة التي شهدتها ساحة السياسة الخارجية الإماراتية منذ سبتمبر عام 2020، لها أبعاد استراتيجية يمكن طرحها فـيما يلي:
اختراقات نوعية: لاشك أن الآلة الدبلوماسية لدولة الإمارات العربية المتحدة تعمل منذ سنوات طويلة بفاعلية يشهد بها القاصي والداني، ولكن فـي الأعوام الأخيرة حققت الدبلوماسية الإماراتية نجاحات وإنجازات واختراقات نوعية كبرى، تعكس فـي مجملها تناغمًا عميقًا وتفاهمًا بالغًا لفريق عمل وطني يقوده بكفاءة ووعي استراتيجي نادر صاحب السمو الشيخ «محمد بن زايد آل نهيان» حيث نجحت الإمارات من خلال جهود هذا الفريق فـي حلحلة الكثير من الملفات الجامدة، والإمساك بزمام المبادرة والمبادأة استراتيجيًا فـي التعاطي مع الأزمات والتوترات، وما يُنظر إليه كتحركات دبلوماسية «مفاجئة» نحو دول مثل تركيا وإيران وسوريا، هو فـي حقيقة الأمر نتاج دراسة متأنية للظروف ومعطيات البيئة الاستراتيجية الإقليمية والدولية، بما يحقق مصالح الإمارات ويضمن لها خطوات استباقية فـي ملفات متحركة ضمن رؤيتها الاستراتيجية الشاملة للأمن والاستقرار الإقليمي.
تعزيز التعاون وبناء الشراكات: فـي إطار التوقعات القائلة بأن الولايات المتحدة تنسحب تدريجيًا من منطقة الشرق الأوسط، على الأقل لجهة الاهتمام والتركيز وأولوية المنطقة فـي حسابات الأمن القومي الأمريكي، وكذلك التوقعات المتباينة حول مصير الجهود الدولية الرامية لإحياء الاتفاق النووي الذي تم توقيعه عام 2015 بين إيران ومجموعة «5+1»،
وما يرتبط بذلك من تكهنات وسيناريوهات حول موقف إسرائيل حيال ما تعتبره تهديدات نووية إيرانية لأمنها القومي، تبدو تحركات الدبلوماسية الإماراتية لتحييد كل هذه الأخطار وتفادي تداعياتها المحتملة قدر الإمكان- والحيلولة دون تأثُّر قاطرة التنمية الإماراتية المتسارعة بما يجري من حولها من صراعات وتوترات، وهنا يبدو الأمر مفهومًا إلى حد كبير،
فالإمارات لا تريد سوى توفـير أجواء إقليمية آمنة ومستقرة، تضمن لعملية التنمية التواصل والاستمرارية، وتضمن لها كذلك مستويات متزايدة من التعاون والشراكات بينها وبين الدول والاقتصادات الأخرى، لا سيما تلك التي تتمتع بمزايا نسبية يمكن أن تسهم فـي تعزيز معدلات الأداء التنموي الإماراتي فـي مختلف القطاعات، مثل قطاعات التقنية والمياه والذكاء الاصطناعي فـي إسرائيل على سبيل المثال.
تحولات نوعية فـي شبكة العلاقات الإقليمية: تبدو الدبلوماسية الإماراتية خلال الأشهر الأخيرة الأكثر نشاطًا وفاعلية وديناميكية على الصعيدين الإقليمي والدولي، فالإمارات التي تستضيف المعرض الأكثر عراقة وشهرة فـي العالم «اكسبو 2020» استقبلت فـي الأشهر الأخيرة أيضًا العديد من القادة والرؤساء والزعماء وكبار المسؤولين من دول العالم، كما تبادلت الزيارات مع العديد من الدول المحورية، وقام صاحب السمو الشيخ «محمد بن زايد آل نهيان» ولي عهد أبوظبي بزيارات لعواصم إقليمية ودولية عدّة، وجميع هذه الأنشطة الدبلوماسية والاقتصادية قد أثمرت عن تحولات نوعية مؤثرة فـي الخريطة الإقليمية، والمسألة تبدو أعمق بمراحل من «تصفـير المشكلات» أو تهدئة التوترات، لتطال رسم واقع جيوسياسي جديد، يرسخ موقع الإمارات ومكانتها وثقلها الاستراتيجي الإقليمي والدولي كصانعة سياسات وصاحبة دور استراتيجي فاعل يستهدف تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
استجابات غير تقليدية للأزمات التقليدية: تعكس التحركات الدبلوماسية الإماراتية منذ توقيع اتفاق إبراهيم مع إسرائيل حتى الآن، استجابات إماراتية غير تقليدية للأزمات التقليدية، فالنموذج الإماراتي الذي بات يقوم على الفاعلية والانطلاق والتحرر من القيود والحسابات التقليدية بات قادرًا على تجاوز الأعراف والقواعد والبروتوكولات التقليدية التي تحول فـي أحيان كثيرة دون تحريك المياه الراكدة فـي أزمات وملفات كثيرة، وتقف عقبة أمام تنقية الأجواء وتبريد أزمات المنطقة، فالإمارات التي تقرأ الواقع الاستراتيجي الدولي جيدًا
وتعي أن العالم يمر بمرحلة انتقالية من النظام العالمي القائم إلى ما يمكن تسميته نظام ما بعد كورونا، وما يعنيه ذلك كله من تجاذبات وتحولات وإعادة للهندسة الجيو سياسية والجيو استراتيجية للدول والمناطق المختلفة، لا تريد الوقوف بانتظار تبلور نتائج التفاعلات الحاصلة على المستوى الدولي، بل تريد أن تسهم بفاعلية فـي توجيه بوصلة التحولات،
بما تمتلك من إرادة التحرك الاستباقي سياسيًا ودبلوماسيًا؛ من أجل تفادي أي تأثيرات وعواقب سلبية لسياسات وقرارات وتوجهات القوى الدولية والإقليمية.
قوة دفع الخمسينية الأولى: لا شك أن حصاد مسيرة التنمية الإماراتية طيلة العقود الخمسة الماضية من عمر الاتحاد، قد راكمت موروثًا عميقًا من الإنجازات النوعية التي تمثِّل وقودًا ورافعة استراتيجية لأي تحرك سياسي إماراتي، فالإمارات تتحدث إلى الجميع وهي تستند إلى حصاد كبير من التجارب والإنجازات التي توفر لها قدرًا هائلًا من الاحترام والتقدير الإقليمي والدولي، وهذا يمنحها القدرة على إدارة الخلافات رغم الاختلافات -أيديولوجية كانت أو مصالحية أو سياسية
أو حتى اقتصادية- واعتماد نهج أكثر براجماتية مقابل تحقيق المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدولة، وهذا النهج القائم على جرد حساب واقعي للأرباح والخسائر فـي العلاقات المعقدة وذات الطبيعة الحساسة مع أطراف إقليمية، مثل: تركيا وإيران.
مقاربات تشاركية: تمثِّل التحركات الدبلوماسية الإماراتية باتجاه سوريا وإيران وتركيا وقطر وغيرها نهجًا تشاركيًا يعكس رؤية الإمارات وميلها الدائم نحو ترسيخ الأمن والسلم الدوليين، فالإمارات لا تسعى للجمع بين المتناقضين كما يتصور البعض، بل تريد التشارك بين الجميع وفق رؤية تحقق المصالح المشتركة، قفزًا على التناقضات والتباينات،
من خلال تعظيم المشتركات والبناء عليها، وإقصاء الاختلافات والحد من تأثيرها، والانفتاح على الجميع، وليس مفاجئًا أن تعتمد الدولة التي تمتلك أهدافًا طموحة -كالتي وردت فـي وثيقة الخمسين- أو التي تعلنها القيادة بأن الطموحات لا سقف لها سوى السماء، تطرق أبواب مصالحها الاستراتيجية أينما كانت،
لا سيما أن المسألة لا تتعلق فقط بمكاسب اقتصادية وتجارية، بل برغبة صادقة فـي نشر قيم التسامح والتعايش والانفتاح على الآخر، لذا، ليس من باب المنطق أن تُبذل كل هذه الجهود فـي التقريب بين البشر سواء من خلال وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك -التي وقّعها الإمام الأكبر الدكتور «أحمد الطيب» شيخ الأزهر و «البابا فرانسيس» فـي الرابع من فبراير 2019 فـي أبوظبي – فـي حين لا تستطيع اختراق الحواجز فـي علاقاتها الثنائية مع أطراف إقليمية، مثل: إسرائيل أو تركيا أو إيران،
ناهيك عن سوريا، حاضرة الثقافة العربية العريقة التي لا يمكن للعرب مواصلة الابتعاد عنها أو إقصاؤها من منظومة العمل العربي المشترك، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات استراتيجية سلبية للجميع. وهنا يمكن الإشارة إلى التحرك الدبلوماسي الفاعل والسريع نحو سوريا،
والذي تَجسّد فـي زيارة سمو الشيخ «عبد الله بن زايد آل نهيان» وزير الخارجية والتعاون الدولي إلى دمشق واللقاء المهم مع الرئيس «بشار الأسد»، فـي اختراق دبلوماسي يهدف إلى استعادة سوريا إلى حاضنتها العربية الطبيعية، و» بناء الجسور وتعزيز العلاقات ووصل ما قُطع»، كما قال د. «أنور قرقاش» المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة.
في نهاية العام الماضي جذبت قطر الأنظار للمنطقة العربية، بتنظيم دورة لكأس العالم كانت الأغلى تكلفة على مر التاريخ، وتبعتها السعودية مطلع العام الجاري بمجموعة إصلاحات داخلية، قالت إنها تسعى من خلالها لأن تصبح وجهة سياحية عالمية، في حين سعت دول عربية كسوريا وليبيا واللتان شهدتا صراعات على مدار العقد الماضي، إلى إظهار صورة داخلية تُروج من خلالها إلى “الاستقرار الأمني النسبي” الذي شهدته العام الماضي، بالإضافة إلى بوادر تسوية في اليمن، بعد سنوات من الصراع على السلطة والحرب بين الحوثيين وحكومة عبد ربه منصور هادي، التي تدعمها السعودية وقادت تحالفاً عسكرياً عربياً للقتال في اليمن.