قد تفتقر أمة لركن أصيل من أركانها، أو تفتقد لملمح جميل في ملامحها، أما أن ترتد كلية على أعقابها في الأذلين، وتخرج من كل سباق خالية الوفاض ومن كل منحى بخُفي حنين.. فتلك هي الرُدة النكراء، التي لا تجد لها التقاء، لا في جاهلية مطوية ولا في حواضر مرئية .. ..
ولست أرى واقع مصر إلا حالة استثنائية عليلة، خرجت بجملة اعتراضية عن بديهيات السليقة، فلا قارعت معشار أهل الجاهلية الأولى، في وفرة حكمائها وشعرائها وأدبائها وحلمائها ، ولا ماثلت بناة الأرض في أول مهدها، فتقزمت بين الطريقين أشد تقزماً ، ارتكاساً وانتكاساً !!
أحشفاً وسوء كيلة ..
لاجرم أن حاضر مصر يبدو لي في صورة التمرد على الماضي، الذي يشي بالانزواء الحضاري، عن كل تفاصيل جعلت من هذه البلدة يوماً عبقرية المكان، التي يشار لها بالبنان،…
يبوء الحاضر المصري بانتهاكات مقننة للفضلاء، ويتسع رحابة لغثاء سيل من النوكى والسفهاء، والتي إن نافست مصر بواحد منهم أمم الأرض جميعاً في مواطن الدون، لرجحت مصر ….
يغط الواقع المصري في غمط من الضلالة والجهالة، ولو مُزج أيهما أو كلاهما بماء النيل العذب لصار أجاجا، ولو كانت الريادة والثقافة كوائن حية بألسنة ناطقة، لنددت بسمعة مصر بين الأمم، نكالاً لضرب العلماء والأدباء ، وكل دروب الثقافة في ربوع مصر على الإجمال …
لقد عنونت هذه المقالة بعبارة استفهامية حاملة في طيتها أخجل صور للإجابة الحرفية !!!
فكيف انفرط العِقد وتناثرت حباته وماحت إطلالاته ؟
لا مرية في القول بزوال عِقد التميز المصري على كل صعيد ومنحى … ابتداءً بالدين علماء وأولياء وكان القرضاوي في هذا العِقد انتهاءً … في عِقد تناغمت حباته وتبوتقت حلقاته في أطوار الزمن وحِقباته ، فبرز حماة الشريعة وسدنة الدعوة، المشايخ الشوامخ الغزالي ومحمود شاكر ومحمود شلتوت وعبدالحليم محمود وعبدالحميد كشك والشعراوي وجاد الحق علي جاد الحق …
فتركوا فراغاً يرتع فيه سعد الهلالي ومظهر شاهين وخالد الجندي ومختار جمعة وعلي جمعة ومبروك عطية وإبراهيم عيسى وإسلام البحيري إلخ ….
وضاق حاضر مصر ذرعاً من غياب دوحة الأدباء ولوحة الشعراء، والكتاب الحاذقين والمفكرين المبدعين، فبينما ضخت في شرايين الأحقبة بأعظم المضخات كأحمد شوقي والبارودي وحافظ إبراهيم وجمال حمدان والعقاد والرافعي والمنفلوطي، فقد ألقت اليوم بأقبح الخائبين والخائبات، فتصدر المشهد الإعلامي والثقافي أحمد موسى وعمرو أديب ونشأت الديهي ومحمد الباز وتامر أمين ومصطفى بكري ولميس الحديدي وأحمد شوبير إلخ ….
ولا أزعم بمثالية الماضي قريبه أو بعيده على أرض مصر، لكن بوناً شاسعاً بين مُنحنى اعتدالي متأرجح في البزوغ والأفول، وذاك الكالح القاتم الذي نحياه ….
مصر التي ألقت بفلذات أكبادها علي مصطفى مشرفة ويحيى المشد وسمير نجيب وسميرة موسى وسعيد بدير وأحمد زويل ، هي نفسها التي أنجبت شراذم الممثلين والمطربين والعلمانيين والمارقين …
ومصر التي أنجبت سعد الدين الشاذلي وأبوغزالة وصوفي أبوطالب وعاطف صدقي وحسب الله الكفراوي، هي ذاتها التي أنجبت شمس بدران وحمزة البسيوني وصلاح نصر وصفوت الشريف وزكريا عزمي وأحمد أبوالغيط وسامح شكري ومصطفى مدبولي….
مصر التي أنجبت أحمد باشا المنشاوي وأحمد عبود باشا وطلعت باشا حرب ونعمان باشا الأعصر وعثمان أحمد عثمان وعبداللطيف أبورجيلة هي نفس مصر التي أنجبت أحمد عز وأحمد أبوهشيمة ….
إذا كان تاريخ مصر الحديث سجالاً بين رفعة وجفوة، فإن الحاضر فريد في كمه ونوعه ودقه وجله، وغير مسبوق ولا ملحوق .. إن الحاضر زهوقاً ……