يدفع الشعب الفلسطيني في غزة ثمنا باهظا ليحافظ على صموده ودعمه للمقاومة الباسلة، يدفع من دماء شبابه وأطفاله ونسائه، ومن أمنه واستقراره، هذا شعب عظيم أصيل شديد البأس، لم يتبرم رغم المآسي والمصائب والمؤامرات التى يتعرض لها من كل جانب، ولم يستسلم رغم الجوع والعطش والدمار، ورغم الموت الذى يأتيه صباح مساء، من الجو والبر والبحر، وقد كان الصهاينة وأشياعهم يراهنون على أن فرض التجويع العام وإحكام الحصار الظالم على هؤلاء الأبطال، الصابرين المحتسبين، سينتهي بتركيعهم وكسر شوكتهم، حتى يعلنوا براءتهم من المقاومة، ويخوضوا فى إدانتها وطعنها والتشكيك فيها كما يخوض الخائضون.
هذا الشعب الصلب الشجاع لايمكن أبدا أن ينهزم، لأنه يثق ثقة كاملة بنصر الله، ولا يمكن أبدا أن يركع لغير الله، ولو أن مذبحة الخميس (مذبحة الطحين) حدثت في شعب مزعزع العقيدة لرفع الراية البيضاء، ولأعلن الاستسلام فورا، لكنه الصمود الأسطوري الذى علم الدنيا كلها كيف يكون الثبات على الحق، مهما كان الحق مرا، ومهما كان ثمنه فادحا.
عندما كانت قوات العدو تطلق النار عشوائيا على المواطنين المدنيين الذين تجمعوا حول بضع شاحنات جاءت إليهم بالدقيق والمعلبات ظهر الخميس الماضي، كان العالم يرى ويسمع ولا يتكلم، كأنما أصابه الخرس رغبا أو رهبا، وكان البلهاء يعدون بياناتهم العقيمة التى سيلقونها بعدما ينتهي العدو من جولة القتل الجماعي، وكانت الأمم المتحدة منهمكة فى تشكيل وفد تقصي الحقائق الذي سترسله إلى تل أبيب ورام الله لدفن الحقائق، وكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأنروا) تغلق ما تبقى من مقارها في غزة، وتسحب مندوبيها، بعد امتناع الدول الممولة عن دفع إسهاماتها، وكانت محكمة العدل الدولية تستمع ـ مازالت ـ إلى شهادات الشهود عن التدابير التى اتخذتها إسرائيل لتفادي الوقوع تحت طائلة قانون جرائم الحرب والإبادة الجماعية، بعد مضي شهر على صدور قرارها بخصوص هذه التدابير!!
وهكذا نجحت القوى الصهيو أمريكية في ترتيب المسرح جيدا لهذه اللحظة التاريخية الحاسمة، اللحظة التى تنتزع فيها من الإنسان إنسانيته ونخوته، وتتبلد أحاسيسه، فلا يبقى منه إلا شعور بالعجز واليأس والأنانية، يغلفه كلام سخيف عن وقارالحكمة الكاذبة، والعقلانية الجبانة عن نصرة الحق.
في هذه اللحظة التاريخية الصماء البكماء جرى تنفيذ خطة الانتقام من المقاومة بتجويع الشعب الفلسطيني من أجل تركيعه، على مرأى ومسمع من الجميع، بل إن هناك من يشارك بهمة في تنفيذها، وهناك من يلوذ بالصمت لتمريرها، وهناك من يوهم نفسه ويوهم الآخرين بالهروب إلى الأمام، وتدبيج تصريحات مخادعة عن السلام وحل الدولتين، وهو يعلم يقينا أن إسرائيل ـ الشعب والحكومة ـ لا تقيم وزنا للسلام، ولا تقبل بحل الدولتين.
لقد فشل العدو في هزيمة المقاومة عسكريا، باعتراف رسمي من الرئيس الأمريكي جو بايدن، في حين تتطاير الأخبار كل يوم عن تمرد داخل الجيش الإسرائيلى، وتدهور معنويات جنوده وضباطه، الذين يحاربون في الميدان ويسمعون تصريحات كاذبة لقيادتهم السياسية والعسكرية عن انتصارات وهمية، لذلك لم يكن أمام العدو إلا الانتقام العنيف من المدنيين العزل، انتقام الجبناء، واستخدامهم سلاحا ضاغطا على المقاومة، حتى تأتي صاغرة إلى مائدة المفاوضات، فيحصل بالتفاوض على مالم يحصل عليه في المواجهات العسكرية، بينما يظل الرئيس الأمريكى يروج أكاذيبه عن السلام الذي لايعنى غير الاستسلام، وعن حل الدولتين الذي لن ترضى به إسرائيل، مادامت مطمئنة إلى أن 99 % من أوراق اللعبة بأيديها.
حين قدم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مشروع قانون إلى الكنيست يقضي باستمرار الحملة على غزة لإخضاعها مع كل الأراضى الواقعة غرب نهر الأردن ـ أرض فلسطين التاريخية ـ للسيطرة الإسرائيلية المباشرة، ورفض إقامة دولة فلسطينية، صوت 99 عضوا لصالح القانون، مما زاد من تشدد نتنياهو وحكومته، وعندما أجرى المعهد الإسرائيلي للديمقراطية استطلاعا للرأي صوت 68 % لمنع إدخال المساعدات الغذائية إلى الفلسطينيين، سواء أكانت من دول أو منظمات دولية أو غيرها، وصوت 63 % ضد إقامة دولة فلسطينية، وهو مايعني أن حوالي ثلثي الإسرائيليين مع تجويع الشعب الفلسطيني والقضاء عليه، وضد حل الدولتين، ولا عزاء لمن لايزالون يخدعون أنفسهم بأوهام السلام والتعايش المشترك.
لقد تجاوزت إسرائيل مرحلة الخداع الإستراتيجي، لم تعد في حاجة إليه، صارت أكثر وضوحا وفجرا في فرض إرادتها، والحديث بلسان القوة الغاشمة في كل تصرفاتها وتصريحاتها، تقول: تكلموا كثيرا عن السلام، واجتهدوا فى تقديم المبادرات، تكلموا كما تشاؤون، استنكروا واشجبوا، لكن دعونا نفعل ما نشاء، وما دامت المعادلة على هذا النحو فلا مانع، ولا تثريب عليكم ولاعلينا، صداقتنا ستزداد وتتسع، والسلام سيظل صامدا!!
لا مانع لدى إسرائيل أيضا أن ترسل أمريكا مساعدات غذائية للمدنيين في غزة عبر الطائرات والممرات البحرية، مادامت محافظة على إرسال شحنات الأسلحة الحديثة التي يقتل بها جيش الاحتلال هؤلاء المدنيين، وما دام بايدن يقف مع نتنياهو في إحكام إغلاق المعابر، ورفض أية دعاوى لإيقاف الحرب، هذه الازدواجية الأمريكية معروفة ومجربة بنجاح من قبل، فقد قتلت الأمريكيون عشرات الآلاف من الشعب الأفغاني بنفس الطريقة، كانت طائراتهم تلقي بوجبات (البرجر وكنتاكى) إلى المدنيين اللائذين بالجبال، حتى إذا اجتمع هؤلاء المساكين للحصول على الطعام جاءهم القصف الجوي بالصواريخ والقنابل من الطائرات نفسها.