أن المتابع للتنظيم الدولي الذي يتمثل في منظمة الأمم المتحدة الموجودة في الوقت الراهن، وعصبة الأمم التي سبقتها، يجد أن ظروفاً دولية وعالمية معينة أدت إلى ظهورهما إلى حيز الواقع، وبالتالي فقد قامت الأمم المتحدة على أنقاض التنظيم الدولي ( عصبة الأمم ) الذي فشل في الحفاظ على السلم وتنمية التعاون بين الدول، ومع ذلك كان عهد العصبة سابقة تاريخية في التنظيم الدولي، وأخذ مؤسسو الأمم المتحدة كثيراً من الهياكل والمؤسسات التي كانت موجودة بالعصبة، ومن أهم تلك الهياكل مجلس العصبة وجمعيته.
يشكل القانون الدولي الإنساني جزءا رئيسيا من القانون الدولي العام، وقد لعبت محكمة العدل الدولية باعتبارها الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة دورا هاما في ترسيخ والتأكيد على احترام مبادئ ذلك القانون، هذا بالإضافة إلى دورها في تطوير مبادئه، وذلك من خلال أحكامها وآرائها الاستشارية الصادرة في القضايا التي ترفع أمامها خاصة في ظل نص الكثير من الاتفاقيات الإنسانية التي تعدها أو تتبناها الأمم المتحدة على اختصاص محكمة العدل الدولية بالنظر في المنازعات الناتجة عن تطبيقها أو تفسيرها إذا لم يتم حلها بأية طريقة أخرى.
لقد سعت محكمة العدل الدولية إلى ترسيخ مبادئ القانون الدولي الإنساني، ففي أول حكم صدر لها في قضية قناة كورفو أشارت إلى الاعتبارات الأولية الإنسانية فضال عن تأكيد المحكمة في أكثر من مناسبة على اعتبار المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني تمثل مبادئ التي لا يجوز الخروج عنها ويتعين على الجميع الالتزام بها فمثل هذه القواعد تنتمى لمجموعة من القواعد الأساسية التي لا غنى للمجتمع الدولي كله عنها، كما أن الامتثال لها أمر ضروري، اذ يفرض هذا القانون التزامات شاملة ومشتركة تكون في تنفيذها مصالح مشروعة لجميع الدول باسم المجتمع الدولي، فهناك مسئولية دولية تقع على كل دولة تخل بالتزاماتها الدولية.
لذا فإننا سوف نتناول في هذا البحث اختصاصات محكمة العدل الدولية، ومبادئ القانون الدولي الإنساني، مع توضيح دور محكمة العدل الدولية في إبراز مبادئ القانون الدولي الإنساني والتأكيد على احترامه. وذلك من خلال استعراض عدد من القضايا والإشارة إلى أحكام المحكمة وأراءها الاستشارية الصادرة بشأن هذه القضايا. كما حرصنا على تناول وتوضيح موقف محكمة العدل الدولية من الشكوى التي قدمتها ايران حول انتهاك الأوليات المتحدة الأميركية لمعاهدة الصداقة الأميركية الإيرانية، الموقعة عام ،1955 بسبب التنفيذ الأحادي للعقوبات الاقتصادية ضد إيران، والتي نالت بشكل أساسي من السلع الأساسية المطلوبة الاحتياجات إنسانية، وكذا أيضا موقف المحكمة من القضية المعروضة عليها بشأن أموالها المجمدة لدى واشنطن
وفي السنوات الأخيرة أكدت معظم الدول في أكثر من مناسبة على أن الأمم المتحدة بشكل عام ومجلس الأمن الدولي تحديداً يمر اليوم بواحدة من أخطر الأزمات التي واجهته منذ إنشائه بعد أن فقد معظم صلاحياته، أو انتزعت منه أهم الصلاحيات التي أنشئ من أجلها، وهي الحيلولة دون قيام الحروب والمحافظة على الأمن والسلام العالمي خصوصاً في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على القرار العالمي وانتهاكها المستمر للمواثيق الدولية ومنها مبدأ تحريم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولة خارج إطار الشرعية الدولية. لاشك أن تتمتع الدول الكبرى الخمس بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن بحق الفيتو، واشتراط موافقتها على أي قرار من المسائل غير الإجرائية هو امتياز يحقق عدم المساواة الذي يقوم عليه التنظيم الدولي.
فقد أدى تمتع الدول الكبرى بهذه الامتيازات، إلى أن تتفق فيما بينها على حساب الدول المتوسطة والصغرى، التي حاولت مرارا وتكرارا التقليل من أثر استعمال حق الفيتو من قبل الدول الأعضاء الدائمين الخمس، والذي شل أعمال المجلس وعرقلة أداء المنظمة الدولية لواجبها الأساسي وهو حفظ السلام والأمن الدوليين.
فلقد ظهر واضحا أن أكبر خطر يتعرض له الأمن والسلام الدوليان، نتج عن المنازعات بين الدول الكبرى وعن عدم الاتفاق بينها خاصة في السنوات التي تلت تأسيس المنظمة الدولية، والتي انقسم فيها العالم إلى كتلتين كل بقيادة إحدى الدول العظمى، الشيء الذي يتناقض مع ما أعلن عنه في مؤتمر سان فرانسيسكو والذي أوجب التعاون الكامل بين الأعضاء كشرط ضروري لفعالية المنظمة الدولية.
ولما كان واضحا من أن أي انشقاق بين القوى العظمى يعرض فعالية كل الأمم المتحدة إلى الخطر، اتفق في مؤتمر سان فرانسيسكو على أن لا يستخدم حق الفيتو إلا في القضايا الجوهرية، والمتسمة ببالغ الأهمية التي تتعلق بالأمن والسلم الدوليين.
كما أصدرت الجمعية العامة في دورتيها الأولى والثانية، قرارات تدعو الدول الخمس الكبرى إلى أن تبذل من الجهد ما يضمن ألا يؤدي استخدام حق الفيتو إلى عرقلة مجلس الأمن. بسبب عجز مجلس الأمن الدولي وفي أحيان كثيرة عن القيام بالمهمة الموكلة إليه (حفظ الأمن والسلم الدوليين) بسبب الاستخدام المتكرر لحق الفيتو، الأمر الذي أدى إلى تعطيل أحكام الفصلين السادس والسابع من الميثاق وعلى نحو لا يتفق مع روح ميثاق الأمم المتحدة وبالتالي فإن هذا الأمر قد أدى إلى عجز الأمم المتحدة عن صيانة الأمن والسلم الدوليين أو أعادتهما إلى نصابهما عند الإخلال بهما، لهذا السبب وغيره من الأسباب بدأت تظهر أراء تدعو إلى أيجاد الحلول التي تضمن أعمال نصوص الميثاق بما يجعل المنظمة الدولية قادرة على أداء دورها وتحقيق الغاية التي وجدت من أجلها،
وقد اتجهت هذه الآراء إلى تلمس الحل في اختصاصات الجمعية العامة التي هي الجهة الوحيدة التي تشارك مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدولي أو أعادته إلى نصابه عند اختلاله، فأخذ أصحاب هذا الآراء بدراسة نصوص الميثاق المتعلقة بالجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي ويتوسعون في تفسيرها وكان من بين ما ينشدونه القضاء على التمييز بين أعضاء الأمم المتحدة هذا التمييز الذي كرس بشكل واضح في مجلس الأمن الدولي والذي لا يظهر ضمن نطاق الجمعية العامة.
إن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي جهاز من بين عده أجهزة في الأمم المتحدة ولم تعطى تصرفاتها القانونية قوة القرارات الإلزامية بسبب عدم اختصاصها في التنفيذ وذلك بسبب بطء عمل الجمعية العامة مما يعقد عملية اتخاذ القرار في الوقت الذي تحتاج فيه إلى السرعة لمعالجة المستجدات الدولية،
مما حتم وجود جهاز مختص يقوم بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ويملك الوسائل القانونية والمادية التي تساعده على تنفيذ مهامه الموكلة إليه حسب الاختصاص في ميثاق الأمم المتحدة ولكن تاريخ الأمم المتحدة أثبت أن قرارات الجمعية العامة ذات قيمة أخلاقية كبيرة وهي في كثير من الأحيان نجحت حيث فشل مجلس الأمن الذي كثيراً ماوقع رهينة التجاذبات بين الدول الخمس الأعضاء مما شل عملية اتخاذ القرار في مجلس الأمن خصوصاً في فترة الحرب الباردة وجعل العدالة الدولية معطلة دائماً لصالح الأستقرار الذي تريده الدول الكبرى.
وعند فشل مجلس الأمن كانت الجمعية العامه تتصدى لتلك القرارات عبر توصيات عدة لكن هذه التوصيات رغم القيمة القانونية إلا أن الأمم المتحدة ظلت عاجزة عن أمتلاك الوسائل والآليات المناسبة لتنفيذ توصياتها مما أفقدها قيمتها القانونية ،وذلك من ناحية عدم التطبيق وعطل العدالة الدولية حيث أن العدالة لاتعني وجود قوانين مثالية، ولكن القدرة على تطبيقها.
ولكن مع ذلك خرجت كثير من التوصيات إلى اطار التنفيذ مما أضاف كثيراً إلى العدالة الدولية نوعا ما، وجعل الجمعية العامة متنفسا للدول الصغرى بعيداً عن هيمنة الدول الكبرى على مجلس الأمن.
تساهم الجمعية العامة في حفظ السلم والأمن الدوليين، غير أن هذه المساهمة تختلف في طريقتها عن مساهمة مجلس الأمن الدولي، لقد أعطى الميثاق في المادة العاشرة منه للجمعية العامة سلطات بالقول (للجمعية العامة أن تناقش أي مسألة أو أمر يدخل في هذا الميثاق)،
ويفهم من نص المادة المذكورة أنه يحق للجمعية العامة أن تناقش أي نزاع دولي متى ما كان يشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين وأن على الجمعية العامة أن تتخذ كل التدابير اللازمة لتطويق هذا النزاع ريثما تعرضه الأطراف على محكمة العدل الدولية،
وتأكيدا للدور الذي تضطلع به الجمعية العامة في حل المنازعات الدولية عاد الميثاق وأكد في الفقرة الثانية من المادة الحادية عشر على أن (للجمعية العامة أن تناقش أي مسألة تكون لها صلة بحفظ السلم والأمن الدولي يرفعها إليها أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو دولة ليست من أعضائها)، وتصدر الجمعية قراراتها في المسائل المهمة بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المشتركين في التصويت، وطبقا للمادة الرابعة عشر من الميثاق فللجمعية العامة أن توصي باتخاذ التدابير اللازمة لتسوية أي موقف مهما كان منشؤه قد يعكر صفو العلاقات الودية بين الأمم ويدخل في ذلك المواقف الناشئة عن انتهاك أحكام الميثاق الموضحة لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
لقد تجاهل المدافعون عن وجوب وجود حق الفيتو، أن استعماله كان للدفاع عن مصالح الدول الكبرى في نطاق مجلس الأمن، متناسين كذلك أنه ليس من الضروري أن يكون استعمال الدول الكبرى لحق الفيتو هو وسيلتها الوحيدة لمنع صدور مثل هذه القرارات.
كما تجاهلوا إستشارة الدول العظمى بحق الفيتو عندما بالغت في استعماله ضد إدارة الشعوب المغلوبة والضعيفة والفقيرة، حتى أهدرت مصالحها فحرم البعض من إستقلاله ومن إسترداد حقه في تقرير مصيره. وحرم البعض من إسترجاع أوطانه المستعمرة من قبل الإستعمار، والسيطرة بالقوة من قبل الأنظمة العنصرية، كما هو حال فلسطين وقبلها جنوب إفريقيا وناميبيا وغيرها، كما تعرقل إنضمام دول جديدة إلى المنظمة الدولية، كانت تريد أخذ مكانها في هذه المنظمة، والمشاركة فيها، إنطلاقا مما جاء في ديباجة الميثاق.