حتى الآن تتملك الدهشة الكثيرين من قوة وتأثير وعظمة القرآن الكريم وما يملكه من قدرة على التغلغل في أعماق النفس وزلزلة الوجدان والهيمنة على المشاعر والأحاسيس والانتقال بالبشر إلى عوالم مبهرة من السكينة والطمأنينة والراحة المريحة المذهلة ..
لم اجد عبارة افضل أو اقوى دلالة لتلك الحالة مما قاله الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود حين قال:القرآن الكريم مأدبة الله من دخل فيه فهو آمن ..لذلك كانت نصيحة العارفين المؤمنين المتقين دائماً اقرأوا القران ..اقرأه على اي حال وفي كل حال..في حال الرضا تزداد رضا وقناعة في حال الغضب تهدأ فورة الغضب وتزول..في حال القلق تزداد أمنا وطمأنية .. في حال الفرح تزداد انشراحا وارتياحا..في حال الحزن تهون كل المصاعب وتخف الآلام بفضل الله تعالى..
مما يذكر انه كان من العادات المصرية الجميلة التي اندثرت إقامة الليالي القرآنية في كل المناسبات وفي الافراح خاصة قبل أن تدهس الخزعبلات المعاصرة كثيرا من معالم ومواطن الجمال في الحياة الاجتماعية..وكان كبار القراء والمنشدين هم من يحيون تلك الليالي..ومن الفأل الحسن أن هذه العادة بدأت في الاشراق مرة أخرى ونشهد حاليا ولو على استحياء وفي نوع من التحدي للحفلات الماجنة واشباهها ولغول الدي جي والمطربين والمطربين ولا مانع راقصات..بدأنا نشاهد فرق الانشاد الديني والمبتهلين تعود لتكون بندا في الافراح..
ومن عجب أن يستبعد الناس القرآن من مأدبة أفراحهم باعتبارها مناسبات للهو والمرح..ويقصرون القرآن على مناسبات العزاء والجنازات حتى تأصلت النزعة الجنائزية وسادت.. وهي عادة على ما يبدو لها جذور فرعونية عتيقة..أضافت مسحات من الحزن على وجه الحياة..
المسلمون على مر العصور كانوا يدركون قوة وتأثير القران ليس فقط من أجل العبادة ولكن نظرا للتأثير العلمي والتربوي في كل مناحي الحياة فحرص المجتمع على أن يكون هناك رباط دائم وتعلق مستمر لاينقطع بالقران ليس فقط تعلقا قلبيا وانما تعلق علمي وعملي..وهي مسألة لن تعطل أو تؤثر على مجريات الأمور الأخرى ولن تأخذ من نصيبها أو وقتها فلن يتأثر العامل أو الصانع أو المهندس أو الطبيب بحفظه للقرآن أو المواظبة والمداومة على قراءة القرآن يوميا والاستماع إليه.. اعرف أناس تختم القران أسبوعيا وشهريا ومنهم عدد كبير من الأساتذة في الجامعات في غير التخصصات الدينية يختمون القران مرة كل أسبوع وبسؤالهم عن الطريقة الى ذلك قالوا انهم يجلسون عقب كل صلاة مفروضة من ثلث الى نصف ساعة لا اكثر يقرأون جزءا من القران أي خمسة أجزاء يوميا أي مرة كل أسبوع وهو ما ينفي أي اعذار للترك أو الهجر أو الدخول في دائرة من نعى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفهم بأنهم ممن اتخذوا هذا القرآن مهجورا..
ومن هنا كان المنهج الجميل الرائع المعروف بالورد اليومي القرآني لكل مسلم يحافظ عليه دائما دون إهمال أو تفريط والبعض يفضل أن يكون أول ما ينزل جوفه قبل الطعام أو الأكل شيء من القرآن..والمسألة لا علاقة لها بالسهولة والصعوبة وانما تعليم وتعلم وتعود والقاعدة مشهروة ومعروفة “من شب على شيء شاب عليه”..وأصحاب الاوراد المواظبون عليها تجدهم الاكثر حفظا والأقوى ذاكرة ..
ومن عجب أن تجد البعض يداوم على حفظ الشعر وخاصة العمودي لتنشيط الذاكرة والحفاظ على قوتها وينسى الأهم هو حفظ القرأن الكريم مع أن فيه معاني إضافية اقوى واجمل ففيه حفظ وعبادة وقربى إلى الله ..
وبعض كبار الكتاب يلزمون أنفسهم بحفظ الاشعار والحكم وغيرها من هذا الباب للحفاظ على ذاكرتهم وتقويتها وكان من بينهم الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل وفقا لشهاداته في أحاديثه..
قوة التأثير الكامنة في القرآن الكريم وقدرته على النفاذ إلى العقول قبل القلوب قضية أدركها أعداء الإسلام منذ اليوم الأول للرسالة ولذلك كان همهم الاول أن يبتعد الناس عن القران سواء المسلمين أو غير المسلمين لأنهم يعلمون جيدا صدق وقوة بيانه وحجته العقلية والقلبية ايضا فكانت اوامرهم لاتباعهم كما حكى القران الكريم..”لا تسمعوا لهذا القران والغوا فيه لعلكم تغلبون “!
لقد كان لسماعه بين الناس أثر عظيم فقد عرف أولئك القومُ الفصحاء الأقحاح لغةَ العرب شعرها ونثرها وأصغوا لبلغائهم وخطبائهم وشعرائهم وكهانهم فما وجدوا جميل كلامهم يبلغ شأوه أو يلحق سبقه أو يشبه جمالَه وحسنه وتأثيرَه على النفوس وأسره للأسماع والقلوب حتى إنهم حينما بهرتهم روعة القران الكريم رفعوا القصائد السبع المعلقات من حول الكعبة وهي خير ما جادت قرائح الشعراء العباقرة أمثال: امرئ القيس وطرفة بن العبد وكعب بن زهير وعمرو بن كلثوم خجلاً منهم وانفعالاً.
قضية تأثير القرآن الكريم في النفوس ونفاذه إلى العقول والقلوب شغلت حيزا كبيرا من تفكير العلماء سواء القدامى والمحدثين بحثا عن سر من الاسرار أو رغبة في استكناه ما يجري ولا يستطيعون له تفسيرا حتى الآن. واعتبروا أن ما يصنعه في القلوب والعقول من أبواب الاعجاز القراني فالمرء لا يسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه..
قال الله تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21] وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]”.
ومما قاله القاضي عياض وهو يعدد وجوه إعجاز القرآن: ” ومنها: الروعةُ التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ﴿ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 41] ويودون انقطاعه لكراهتهم له. وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23] ويدل على أن هذا شيء خص به أنه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره..
ويؤكد العلماء على أن تأثير القرآن مستمر وبصورة اقوى حتى في عصر التقدم العلمي والتقني ويزداد يومًا بعد يوم ويدل على ذلك مواكب العلماء والعباقرة والباحثين وعامة الناس الذين يقبلون على الإسلام مهتدين منبهرين بهذا الكتاب المعجز الذي اشتمل على ألوان متعددة من أساليب الهداية والتأثير على الخلق على اختلاف لغاتهم وتخصصاتهم..
وإذا كانوا يقولون في علم الاتصال الجماهيري إن التكنولوجيا الحديثة حولت العالم الى قرية صغيرة فإن القران الكريم جعل الإنسان يعيش حقيقة أن العالم بل الدنيا كلها قرية صغيرة ويجعله يعيش الأحداث في وقت واحد منذ بدء الخليقة وسيدنا آدم عليه السلام وما مرت به البشرية من أحداث وحتى يوم البعث في الآخرة يوم القيامة ونهاية هذا العالم ..
ويلفت العلماء الأنظار إلى أن أسلوب القرآن في الوصول إلى القلوب والعقول يشفي العامة ويشفي الخاصة فظاهره القريب يهدي الجماهير الساذجة وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة والفكر، ثم إن مرونته اللفظية تجعله واسع الدلالة..
ونظرا لأن الناس مختلفون في وسائل تأثرهم فلا يدخل القرآن إلى قلوبهم من سبيل واحدة بل من سبل مختلفة فهناك نفوس تواقة يغريها الوعد بالخير فحينما تقرأ ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين من الثواب والعطاء الكريم تشتاق إلى ذلك الخير الموعود فتقبل على الهداية، وهناك نفوس تحتاج إلى زجر ودفع فعندما تقرأ أو تسمع آيات الوعيد وما أعد الله تعالى من أليم عذابه وعظيم عقابه لمن عصاه تنتفض خوفًا وفرقًا فتترك ما هي عليه من العصيان وتسلك طريق الهدى وهناك نفوس تستهويها الألفاظ وقوتها والعبارات وحسن نظمها والأساليب وجمال اتساقها والصور التعبيرية والذهنية وحسن مأخذها فمتى وجدت ذلك في آية سمعتها أو قرأتها تملَّكتها حتى تهديها إلى الحق وهناك نفوس معجبة بالقصص وحسن سَوق أحداثها وموضوعاتها وعواقبها ففي قِصص القرآن بعظاتها وعبرها ما يشبع نهمها ويكبح جماح انفلاتها في مراتع الهوى..
العناية بالقران والاهتمام بحفظه وتحفيظه وتسهيل طرق التعلق به احد الأبواب الرئيسية للإصلاح العام والشامل والذي يبدأ دائما واولا بالفرد والتأثير بات واضحا وملموسا وقضية لا تحتاج الى بيان ولا يجب اهمالها او التقليل من شأنها فالقران يوفر الحماية والحصانة للنفوس ويقيها من ارماض خطيرة خاصة امراض القلوب والشهوات والتي باتت تؤرق الكثير من المجتمعات ان لم يكن كلها على الاطلاق..
** يقول بعض العارفين :لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثلا لإسفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات).
والحديث عن القران الكريم وتاثيره موصول..والله المستعان ..
megahedkh@hotmail.com