ويغني للمسلمين والمسيحيين واليهود! *
سيظل أحد أهم إنجازات ثورة 1919 وأعظمها هو الظهور المدهش لأعجوبة الموسيقى المصرية والعربية سيد درويش،
فالشاب الذي ولد في مثل هذا اليوم 17 مارس 1892 قد تمكن بموهبته الفذة من أن ينقل فنون الموسيقى والغناء من القصور الباذخة إلى الحواري الضيقة، ومن الصالونات الفارهة إلى المقاهي الشعبية.
هذه القفزة النوعية ما كان لها أن تتحقق لولا ثورة 1919، حيث شعر المصريون للمرة الأولى أنهم أصحاب هذا الوطن، وأنهم يستحقون الحرية والاستقلال، وبالتالي من حقهم أن يفرحوا ويعزفوا ويغنوا.
انتفض الشاب المعجزة بنبض الثورة، وانصهر مع الجموع.. موظفين وعمال وحرفيين، أبناء المدن الحديثة، ورأي الوحدة الوطنية تتجلى في أبهى صورة بين المسلمين والمسيحيين واليهود،
فقدم (بلادي بلادي/ قوم يا مصري/ أحسن جيوش في الأمم جيوشنا)، وقد استفاد درويش من الإيقاع السريع الذي تفرضه العروض المسرحية التي يشارك فيها بالموسيقى والغناء، فاتسمت أغنياته بالحيوية والحركة، بعد أن كان المطرب يبدد الأماسي كلها في (يا ليل يا عين) فقط!
هكذا إذن أثرى سيد درويش المكتبة الموسيقية بعشرات الأغنيات البديعة في كل أغراض الفنون، رغم أنه رحل عن عالمنا في 15 سبتمبر 1923، أي وعمره 31 عامًا فحسب، منها سبع سنوات فقط عمل فيها بالموسيقى والغناء،
وسوف أختار من المنجز الضخم لهذه المعجزة البشرية، أغنيتين نادرتين توضحان جرأة هذا الرجل وعبقريته المذهلة.
الأغنية الأولى اسمها (الشيطان)، أجل (الشيطان)، وقد شدا بها في مسرحيته (الباروكة)، وهي ذات إيقاع بالغ السرعة ويقول مطلعها
(كان الشيطان بيعزّم يوم على ابن الناس)، حيث يصوّر الصراع بين الشيطان والملائكة في صورة كوميدية لطيفة،
وقد فتن محمد عبد الوهاب بهذه الأغنية فترنم بها على العود في تسجيل نادر موجود في موقع (اليوتيوب).
أما الأغنية الثانية فهي (إوعى يمينك) التي ينبه فيها المصريين إلى ضرورة الحفاوة بالوطن، والابتعاد عن المشاحنات الدينية أو السقوط في مستنقع الفتنة الطائفية، لأن ذلك الأمر لن يخدم ولن يفيد، بل يضر بشدة. يقول درويش في آخر هذه الأغنية:
(اسمع.. اسمع مني كلمة/ إن كنت صحيح بدك تخدم/ مصر أم الدنيا وتتقدم/ لا تقول نصراني ولا مسلم/ ولا يهودي يا شيخ اتعلم/ اللي أوطانهم تجمعهم/ عمر الأديان ما تفرقهم).
والله معك حق يا شيخ سيد (اللي أوطانهم تجمعهم/ عمر الأديان ما تفرقهم).!