الحديث عن شكري سرحان له طعم العيش البلدي الطازج (والجبنة) الفلاحي الشهية، والكلام عن (إمام) في شباب امرأة تفوح منه رائحة الحقول الممتدة والبراءة الريفية،
أما تأمل تعبيراته المذهلة في (الزوجة الثانية) فيزرع في صدورنا زهور الافتتان بواحد من أهم ممثلينا الكبار.
البداية الباهتة
في 13 مارس عام 1925 ولد شكري سرحان، وفي مثل هذا اليوم 19 مارس 1997 غاب عن عالمنا،
وبين التاريخين صال وجال على الشاشة البيضاء متقمصًا أكثر من شخصية، راصدًا أدق الانفعالات، كاشفا عن براعة عجيبة في اقتناص الملامح النفسية والجسدية التي يتصدى للتعبير عن أصحابها.
المثير أن أدواره الأولى في السينما لم تكن ذات شأن، فقد ظهر لبعض دقائق معدودات، وأحيانا لثوان في أفلام (أوعى المحفظة/ نادية 1949/ أولاد الشوارع 1951)، حيث يتفوه بجملة أو جملتين بشكل نمطي ثم يختفي،
وإن كان قد فاز بدور كبير وملحوظ في فيلم (لهاليبو الذي عرض في 26 سبتمبر 1949 للمخرج حسين فوزي). لكنه كان يبدو متأنقا.. ابن ذوات.. وسيم،
وهكذا تحرمه الشخصية النمطية التي يجسدها من إبراز مهاراته في فنون التمثيل التي تلقاها على يد زكي طليمات كبيرهم الذي علمهم فنون الأداء حين أسس وأشرف على معهد التمثيل في منتصف أربعينيات القرن الماضي.
ابن النيل
في الأول من أكتوبر عام 1951 انفتحت أبواب المجد أمام شكري سرحان، إذ شاهده الجمهور للمرة الأولى في دور فلاح في الفيلم الجميل (ابن النيل).
لقد انتشله يوسف شاهين من القصور الفخمة وألقى به في الطين والوحل، بعد أن عرف كيف يوظف هذا الفتى ذا الستة والعشرين عامًا في دور سيخلده إلى الأبد.
ويبدو أن نجمنا الوسيم قد استثمر نشأته الريفية ودراسته الأكاديمية في اقتناص الحالة النفسية للفلاح الساخط الناقم.. كاره الريف والحقل.. الحالم بالمدينة وأضوائها وصخبها.
في هذا الفيلم الاستثنائي الذي قام بتصويره الفيزي أورفانلي واقتبس قصته يوسف شاهين وفتوح نشاطي (المخرج المسرحي والممثل المهم صاحب دور عمو عزيز في فيلم شارع الحب لعبد الحليم).. اقتبسا قصته عن مسرحية جرانت مارشال (ريفربوي)..
أقول.. في هذا الفيلم نرى الممثل الحقيقي داخل شكري سرحان (حميدة).. في طريقة كلامه الخشنة.. في نظراته الغاضبة.. في التذمر من كل شيء الذي يلوح حتى في مشيته، في جلبابه المهترئ وخصلة شعره المنسدلة على جبينه..
إنه يكره قريته القابعة في أعماق الصعيد، ويحلم بالقاهرة وبقطارها الذي يزور البلدة فيهرع ليتأمل هذا الصندوق الحديدي الضخم الذي يمكنه أن يقذف به في جنة يسمع عنها ولا يراها.
أنت تعرف بقية الفيلم وكيف تعامل حميدة مع مجتمع القاهرة وأجوائه وعصاباته، لكنه ظل محتفظا بالنبض الريفي في كل حركة أو لمسة من أدائه حتى عاد أخيرًا إلى موطنه.
شباب امرأة
بالنسبة لي ستظل الشخصيات الريفية التي تقمصها شكري سرحان هي أفضل ما قدم على الإطلاق،
وها هو بعد أن نضجت خبراته وتطورت إمكاناته وامتلك أدواته يعرض علينا إحدى أعماله السينمائية المبهرة، وهو دور (إمام) في فيلم (شباب امرأة) الذي عرض في 6 يناير 1956 للمخرج صلاح أبوسيف كما ذكر الناقد الكبير محمود قاسم في موسوعته المهمة عن السينما المصرية.
كتب القصة أمين يوسف غراب، أما السيناريو فمن نصيبه بالاشتراك مع صلاح أبوسيف، والحوار للسيد بدير، ومدير التصوير وحيد فريد.
في هذا الفيلم الجميل نلمح اللكنة الريفية للشاب المتعلم، ونظراته الخجولة للمرأة الجريئة وامتعاضه من وقاحتها،
ثم تتجلى حرفية شكري سرحان عندما افترش الأرض وشرع يقرأ بصوت عال (ألفية ابن مالك) مع تمايل جسده بحركة آلية مع الإيقاع الموسيقي للألفية.
أما مشهد إغوائه التي برعت في أدائه تحية كاريكوكا، فقد أثبت فيه نجمنا أنه فنان من طراز خاص، حيث النظرات الزائغة تتعارض مع الجسد الفوار بالرغبة، مع الروح المترعة بالتدين..
كل هذا فاح أريجه الطيب على الشاشة في ثوان معدودات هزت الوجدان وأقنعت المشاهد بأنه أمام (إمام) ريفي قح!.
الزوجة الثانية
يقول الناقد الكبير كمال رمزي في كتابه (نجوم السينما العربية) عن فيلم (الزوجة الثانية) للمخرج صلاح أبو سيف/ عرض في 14 أكتوبر 1967 يقول:
(ثمة مشهد في فيلم الزوجة الثانية لا يعد من أجمل مشاهد الفيلم، ولكنه بفضل تكامل عناصره الفنية يعد من أقوى المشاهد التي طالعتنا على شاشة السينما العربية..
في هذا المشهد الذي يدور في حجرة ضيقة خانقة.. شحيحة الضوء. يجلس شكري سرحان متهالكا على الأرض، ويقف العمدة صلاح منصور مسيطرا وحوله حاشية من رجال بلا قلوب،
يشجعون ويهددون يعدون ويتوعدون الفلاح المغلوب على أمره، المحاصر لكي يلقي بقسم الطلاق، ويفتح شكري سرحان فمه، لكن الكلام لا يريد أن يخرج،
وعندما يبدأ في إشهار الطلاق يتهدج صوته وتتوه نظراته وتتوقف الحروف في حلقه فلا يستطيع أن يكمل، وينتبه إلى ذاته التي غرق بداخلها عندما يثور العمدة ضده، ويعاودون المحاولة من جديد).
يكفي شكري سرحان فخرًا أداءه لهذا المشهد المتفرد كي يفوز بلقب أفضل ممثل في تاريخ السينما المصرية في الاستفتاء الذي نظمه نقاد السينما عام 1996 ، حيث قام ببطولة 15 فيلمًا ضمن أفضل مائة فيلم مصري في القرن العشرين.
إن شكري سرحان نجم مختلف، تألق وحقق نجاحاته الباهرة بالتوافق مع استقرار ثورة يوليو 1952 وصعودها، ومن عجب أن حضوره تراجع كثيرًا في زمن مبارك،
ولا أدري هل هذا التراجع يعود إلى أن الأيام نهبت من وسامة النجم وقذفت به إلى قبيلة العواجيز، أم أن عصر الرئيس الأسبق كان يخاصم الفن ويعادي الموهوبين؟.