لا اتفق مع هؤلاء الذين يستنكرون علينا الاحتفاء بالأم فى يوم محدد كل عام، فنحن نعيش عصر تعددت وتنوعت فيه صور ومظاهر الجحود والعقوق وتذكير الأبناء بأن لأمهاتهم حقوق عليهم من الأمور المرغوبة شرعا، وإن كان الاحتفاء بالأمهات فى هذا اليوم لا يعنى على الإطلاق الجحود ونكران الجميل أو الإهمال للأمهات من جانب بعض الأبناء طوال العام.. ثم تذكرها بهدية رمزية فى هذا اليوم، فهذا جحود وعقوق لا يقره دين ولا ضمير إنسانى، وعلى كل من يفعل ذلك من الأبناء أن يراجع نفسه، ويبادر بالتوبة عن جريمة العقوق التى يرتكبها ضد أقرب الناس إليه وهى أمه، الذى أوصاه الخالق بها فى وصيته الجامعة الشاملة ببر الوالدين “ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلىً المصير”.. كما أوصى بها رسول الإنسانية صلوات الله وسلامه عليه عندما جعل الأُم أحق الناس ب(حسن الصحبة) وأجاب على من سأله: “من أحق النَّاس بحُسنِ الصُحْبَة يا رسول الله ؟ قال: أُمك، ثُم أُمك ، ثُم أُمك، ثُم أبوك”.
نعم.. تكريم الأم والبر بها، ورعايتها ينبغى أن يكون فى كل وقت، سواء أكان هذا البر مصدره الأب أو الأبناء، أو المجتمع كله، فالأم هى من حملت وأرضعت وسهرت الليالى تتحمل الأعباء والمسئوليات تجاه أولادها، وعطاؤها لا يمكن أن تكون المكافأة عليه هدية رمزية فى يوم من أيام العام، بل ينبغى أن تكون المكافأة (حسن الصحبة) فى كل وقت، وأن يحسن إليها الأبناء ويبرون بها طول أيام وشهور السنة.
لقد شاع حجود الأبناء مع الآباء والأمهات، وهذا يتطلب تذكير الأبناء دائما بفضل آبائهم وأمهاتهم عليهم، للقيام بما أمرهم الله به من بر وإحسان، تجاه من كانوا سببا فى وجودهم، وربوهم، وعلموهم، وزوجوهم، وعاشوا معهم آلامهم وأفراحهم.. والبر بالأم يجب أن يستمر فى كل وقت طوال العام، فعطاء الأم لأولادها لا يعادله عطاء، ولا يمكن التعبير عنه بمكافأة مادية أو عينية مهما كان حجمها، فعطاء الأم يجسد أسمى معاني الحب والعطاء، والتضحية والوفاء، لذلك أعلى الخالق منزلتها؛ فجعل الجنة عند قدميها، وكرر نبينا ﷺ في برها الوصية، فقال: “أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك”.. وعلى الأبناء أن يتباروا فى رد الجميل لها والوفاء ببرها.
والاحتفاء بالأم فى يوم معين لا ينبغى النظر إليه على أنه “بدعة” حسنة أو سيئة، فكل بر وإحسان بالوالدين يكافأ الله عليه أصحابة ويجزل لهم العطاء، ولذلك لا ينبغى أن نتعامل بحرج دينى أمام تخصيص يوم معين لتكريم الأمهات، والتذكير بفضلهن، وحث الأبناء على البر بهن، فهذا اليوم لا يعنى أبدا عدم الوفاء بحقها فى البر والإحسان طوال العام.. وكل من يتجاهل أمه طوال العام ثم يتذكرها بهدية فى يوم الأم هو إنسان عاق وجاحد وينبغى أن يعيش منبوذا فى المحيط الذى يعيش فيه.
ما زلت أتذكر موقف الأم المسكينة التى فضلت ترك مسكنها لإبنها والاقامة فى دار للمسنين لكى تستريح من نكد زوجته يوميا ولعدم إنصاف إبنها لها أمام زوجته.. ثم نساها الإبن وتذكرها فى يوم الأم ليذهب لها مع زوجته النكدية بهدية رمزية فرفضت استقبالهما، وطلبت من مسئولى الدار طردهما وعدم السماح لهما بزيارتها مرة أخرى.. وكان لهذه الأم كل الحق وما فعلته كان رسالة لكل إبن ممسوح ضعيف الشخصية يظلم أمه ويتجاهل حقها عليه لكى يرضى زوجته.
على كل إبن أن يدرك أن “الاحتفاء بالأم وحسن برها والإحسان إليها” ليس مجرد شعارات ومظاهر شكلية، بل هو إحساس إنسانى لا يتخلى عنه إلا كل إنسان جاحد عديم الإحساس، ينتظره عقاب الله وعذابه واحتقار خلق الله له فى الدنيا.. ولن ينجيه من عذاب الله يوم القيامة إلا رضا الأم عنه وصفحها عن جحوده، ودائما الأم تفعل ذلك إلا هؤلاء الذين ذقن المر على يد أبنائهن وزجاتهم.
تذكروا أيها الأبناء أن الوصية بالأم لا يماثلها وصية بشخص فى ديننا الإسلامى فقد حرص هذا الدين العظيم على الوفاء للأم، وحث كل إبن على البر بأمه ليجسد أروع صور التكريم والحفاوة، ورد الجميل لها حيث يضعها الإسلام في عقل الإنسان وقلبه ووجدانه طوال الوقت.
والاحتفاء بالأم لا يعنى إهمال الأب وعدم البر به، فالتوصية فى كتاب الله الخالد (القرآن الكريم) جاءت ببر الوالدين معا، وكل أب سوى يسعد كثيرا ببر أبنائه بأمهم ويعينهم على ذلك.
السؤال المهم هنا: كيف تبر أمك؟
اعلموا أيها الأبناء أن البر ليس بهدية رمزية أو حتى هدية ثمينة يقدمها الإبن لأمه وهو لا يفعل ما يرضيها نفسيا، فبعض الأبناء يغضبون أمهاتهم كل يوم بتصرفات كلها عقوق وعدم اعتراف بالفضل، أو يترك زوجته تحرق دمها كل يوم ثم يأتى فى يوم الأم ليقدم لها هدية.. لا أعتقد أن هذه الهدية فى هذا اليوم قد ترضى الأم وتسعدها لأنها تتألم من داخلها بسبب سلوكيات الإبن وزوجته.
ما أعظم أن يبر الإنسان أمه بفعل ما يسعدها ويرضيها نفسيا، فالبر الحقيقى بالأم يكون بطاعتها في غير معصية الله، وتحقيق رغباتها المشروعة، وتجنب ما يسيء إليها، وإدخال السرور على قلبها.. والطاعة تكون فيما شرعه الله، مما فيه منفعة لها، وليس فيه ضرر ظاهر على الابن، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ينبغى أن يكون الابن قريبا من أمه يرعاها على أفضل ما تكون الرعاية، ولذلك قال كثير من العلماء باستحباب سكن الإبن مع والديه، أو بالقرب منهما لتقديم الرعاية لهما والاطمئنان عليهما باستمرار.
ومن البر بالأم الإنفاق عليها إذا كانت في حاجة إلى المال ولا يوجد لديها ما يكفي لتعيش حياة كريمة بين الناس.. والرسول عليه الصلاة والسلام يعطي للآباء حق الأخذ من أموال أولادهم ما يكفيهم فيقول: “إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا كسب أولادكم”.
b_halawany@hotmail.com