لم تكن المقاومة الفلسطينية طوال تاريخ الصراع مع إسرائيل مثلما هي عليه اليوم، من حيث القوة والقدرة والصمود، فهي لا تقف ندا للجيش الإسرائيلي وحده، إنما تواجه إلى جانبه قوى البغي والظلم والاستكبار العالمي، وقوى التخاذل والاستكانة، من الذين تثاقلوا إلى الأرض، وتقاعسوا عن نصرة الحق، وانقلبوا حاقدين على من لم يتثاقل معهم، ويسير فى طريقهم المظلم.
ولم تكن قضية الشعب الفلسطينى مطروحة على جدول أعمال العالم مثلما هي مطروحة اليوم، ولم تتوافر لها قوة الدفع والتأييد الشعبية التى تتوافر لها حاليا، فما من بلد على وجه الأرض إلا خرج كثير من أبنائه في تظاهرات تناصر هذا الشعب المظلوم، وتندد بجرائم إسرائيل، رغم أنف الحكومات الموالية لها، إذ لم يعد بمقدور أية سلطة أن تقنع الناس بالأكاذيب الصهيونية إلى مالا نهاية في زمن السماوات المفتوحة.
وكلما طال صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، تبين للناس فى أنحاء المعمورة الفارق الكبير بين بطولة المقاومين الشجعان، الذين يحاربون العدو وجها لوجه في الميدان، ويستقبلون الموت بقلوب مؤمنة مطمئنة، وإرادة صلبة، وبين جرائم الغاصبين الجبناء الذين لا يجيدون غيرالإبادة الجماعية، فيقتلون المدنيين العزل عشوائيا، ويدمرون العمارات السكنية والمستشفيات والمدارس ودور العبادة، ويخربون البنية التحتية والزراعات.
الأبطال الشرفاء ينتصرون لقضيتهم ومقدساتهم وحقهم في الحياة والحرية، والمعتدون ينتصرون لأساطيرهم التوراتية، وفي كل لحظة يرى العالم ماذا يفعل المقاومون الشجعان في غزة، وكيف يواجهون أعداءهم المحصنين في الدبابات والآليات العسكرية بأسلحة تقليدية، فيصنعون لأنفسهم ولوطنهم مجدا عظيما، يعلو في أنظار الأحرار، ويكتبون لأمتهم تاريخا جديدا، يهدم أسطورة الدولة النموذج، ويهزم أكذوبة الجيش الذي لايقهر.
ورغم تشكيك المتخاذلين فى بطولات المقاومة وانتصاراتها، وتهوينهم من أبعادها الإستراتيجية لقصر نظرهم وسوء طويتهم، ولتماهيهم مع الخطاب الصهيوني الدعائي، فإن في معسكر الأعداء من يرصد هذا النصر ويقدره، ويحذر من عواقبه، والحق ما شهد به الأعداء.
يوم الجمعة الماضية نشرت صحيفة (جيروزاليم بوست) الإسرائيلية مقالا للكاتب يونا جيريمي بوب تحت عنوان (إسرائيل مهددة بخسارة إستراتيجية في غزة حتى لو حققت انتصارات تكتيكية في الوقت الحالي) تحدث فيه عن المكاسب التي حققها الجيش الإسرائيلي حتى الآن، ومنها أن حماس لن تكون قادرة على اجتياح إسرائيل مرة أخرى لفترة من الوقت، ولن تكون قادرة على التهديد بإطلاق أعداد كبيرة من الصواريخ على إسرائيل فى المستقبل المنظور، لكن حماس مازالت قادرة على الصمود وإعادة تنظيم نفسها، فهل يمكن أن نسمي هذا تقدما استراتيجيا ؟
وأكد جيريمي أن “السيطرة العملياتية” لم تمنع حماس من الحفاظ على قدراتها، باعتبارها القوة المهيمنة، ولا توجد حتى الآن دلائل تشير إلى أن حماس على استعداد للتخلي عن غزة، ومن ثم لن يفكر طرف ثالث بجدية في دخول غزة لمحاولة إدارتها عندما يعلم أن إسرائيل لم تستطع هزيمة حماس، وبالتالي فما هي النقطة التي سيقرر عندها الرأي العام الإسرائيلي أن “النصر الساحق” لا يمكن تحقيقه.
وأضاف الكاتب أن الجيش الإسرائيلي يتمتع بقوة أكبر من حماس بلا شك، لكن إلى متى ستظل هذه القوة مستمرة قبل أن يصاب العالم والمجتمع الإسرائيلى بالإرهاق من “حرب أبدية” جديدة تنتج عنها مثل هذه الخسائر الباهظة ؟
ونشرت صحيفة (الجارديان) البريطانية مقالا للكاتبة ماري لولور بعنوان “لاتوجد حجة أخلاقية تبرر بيع أسلحة لإسرائيل”، طرحت في بدايته السؤال الآتي: لماذا يستمر الغرب في إمداد إسرائيل بالأسلحة، رغم أنها أظهرت أنها ستستخدم هذه الأسلحة بشكل عشوائي ضد الفلسطينيين؟
وترى الكاتبة أن ادعاءات إسرائيل بالحاجة إلى السلاح للدفاع عن نفسها ظلت قائمة منذ فترة طويلة، لكن تم إبطالها، والمبررالمطروح حاليا لاستمرار مبيعات الأسلحة إليها هو “حجج أيديولوجية” تضع قيمة حياة الإسرائيليين فوق قيمة أرواح الفلسطينيين، وهذا أمر غير معقول!!
وتنتقد لولور موقف الدول الغربية التى تدعي دعمها للمدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق النساء والصحفيين في كل مكان، في حين تواصل هذه الدول نفسها تسليح إسرائيل، مع ما يترتب على ذلك من عواقب مدمرة لحقوق الإنسان وحقوق النساء والفتيات، ومن اعتداءات على الصحفيين، لذلك من الواجب القيام بجمع شهادات الضحايا الفلسطينيين لتضاف إلى الأدلة المتزايدة على جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل.
واختتمت المقال قائلة: “إن البنية الدولية لحقوق الإنسان تترنح تحت وطأة “نفاق” الدول التي تعلن دعمها لنظام قائم على القانون، ولكنها تواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة التي تقتل المزيد من الفلسطينيين الأبرياء، وقبل كل شيء هذه حرب على حقوق الإنسان”.
ويختصر المؤرخ اليهودي إيلان بابيه المشهد الحالي في كلمات قليلة، يفسر بها سر الإجرام الإسرائيلي غير المسبوق فيقول: “نحن الآن نشهد نهاية المشروع الصهيوني، وهي المرحلة الأخطر في تاريخه، لذلك فهو يقاتل من أجل وجوده، ويتعامل بقسوة وعنف وبلا رحمة أكثر من أي وقت مضى، وتلك هي المرحلة الأحلك فى تاريخ فلسطين، لكنه الظلام الذي يسبق الفجر”.
ومن حسن الحظ أن هذه الحقيقة يعيها المقاومون المرابطون في أنفاق غزة، الذين يحاربون من أجل فجر فلسطين، ويعيها اليتامى والأرامل والثكالى الصابرون المحتسبون، ويعيها أطفال يكبرون رغم أنفهم ويصبحون أبطالا، ورجال ونساء وشيوخ يحتملون الجوع والعطش والتشرد في البرد، ويسدد فواتيرها شهداء أبرار قضوا نحبهم تحت الأنقاض، شهادتهم تصنع الحياة، ودماؤهم تروي الحقول لتعشب من جديد.