يقول الكاتب الروماني إبيكتيتوس: “ليس الموت هو الرهيب ، بل الموت المخزي”.
الجزء: 7
أشد الجروح ألما ليست التي تبدو آثارها في ملامحنا، بل تلك التي تترك أثرا لا يشاهده أحد في أعماقنا، فقمة الألم أن تجرح في كل مكان، ولا تدري أي جرح تبكي، كيف لا والوجع أصم، والحنين أخرس، والشوق لا يرى، وأصدق ما نشعر به، أصعب من أن يرى، إذ بعد فشل الأطباء الذين كانوا يشرفون على علاج حالة أختي “نجاة” المريضة، وكذا عجزهم الذريع عن مدها بالأدوية اللازمة وإخضاعها لحصص تصفية الدم بشكل مقنن ومبرمج وفق جدول زمني يتم التقيد والالتزام للعمل به، إذ كانوا يعبثون بحالة أختي الصحية طيلة برنامج علاجها الغير منضبط التوقيت والزمان، كون أختي كلما دعت الضرورة لتواجدها بالمستشفى الجامعي “ابن سينا” بالرباط، الا ويتم التعامل مع حالتها الصحية بشكل تهميشي وغير مسؤول لا لشيء سوى لكونها مريضة من الدرجة الثالثة، وأعني هنا بالدرجة الثالثة الطبقة الثالثة في الترتيب المجتمعي “الطبقة الغنية – الطبقة المتوسطة – الطبقة الفقيرة العاملة”، كان يتم تجاهلها لعدة ساعات وغالبا ما كان يتم تغيير برنامج خضوعها لحصص تصفية الدم تحت ذريعة “ليس هنا في المستشفى سرير رهن الاشارة”.
ذهاب أختي “نجاة” رفقة خالتي “عائشة” من مدينة الدار البيضاء الى مدينة الرباط قصد الخضوع للعلاج “تصفية الكلي”، كان يتطلب البعض من المال، وقد سبق لي أن أشرت كون كلمة “مال” أو “نقوذ” هي كلمات يصعب علينا اللفظ أو التلفظ بها، إذ لم يكن لنا يومها من معيل، باستثناء تلك الدريهمات التي كانت تتحصل عليها خالتي “عائشة” جراء تعاطيها لظاهرة التسول، رغم ذلك كانت تفي بالغرض، وتسدد تكاليف التنقل والسفر.
وفي ذات يوم حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ بتاريخ يوم الأحد 25 رمضان 1404 هجرية، الموافق للتقويم الميلادي 24 يونيو 1984م، وبمجرد ما أن وصلت كل من خالتي “عائشة” وأختي ّ”نجاة” الى مدينة الرباط وولجتا المستشفى الجامعي “ابن سينا” حتى انهارت قوى أختي “نجاة” وخرت ساقطة على الأرض، وذلك جراء عدم استطاعة جسمها مقاومة الوهن والسقم والألم، وبه تم إدخالها إلى قسم المستعجلات على وجه السرعة، بعدها مباشرة إلى قسم الإنعاش الطبي “العناية المركزة” لعسر حالتها الصحية التي أصبحت جد متدهورة، فبقيت هناك لبعض من الوقت، ليخرج بعدها الطبيب المداوم على خالتي “عاشئة” من القسم المذكور، وعلامة الحزن والأسى تبدو على محياه، فأخبرها كون أختي “نجاة” قد لبت نداء ربها والتحقت بالرفيق الأعلى، حيث يقول المثل العربي: “المرض العضال لا ينتهي إلا بالموت المحقق، أو الشفاء المحقق”.
لقد ماتت المسكينة دون أن تتمكن من توديعنا، ماتت دون أن تبادلنا نظراتها الأخيرة، ماتت في صمت دون تركنا لا وصية ولا كلام أو خطاب سواء لأمي أو لنا نحن اخوتها، وقتئذ لم تجد خالتي عائشة العقل الكافي لتدبير الفاجعة، هل تعود الى مدينة الدار البيضاء من حيث أتت، وتخبرنا من هناك بوفاة اختي نجاة رحمها الله، أم تتابع السفر وتلتحق بنا بمدينة القنيطرة وتخبرنا في يومها بالطامة الكبرى. لقد وقع خبر وفاة أختي نجاة رحمها الله على خالتي عائشة كالصاعقة ان لم أقل كالزلزال المدوي، نظرا لكون مكانة أختي نجاة عند خالتي عائشة كابنتها بالرغم من كونها لم تولد من رحمها، الا انها تربت في حضنها وعاشرتها طيلة ايام صباها وطفولتها وشبابها.
يومئذ استطاعت خالتي تمالك نفسها، والحفاظ على معنوياتها النفسية قبل الروحية، وبقيت داخل المستشفى الى حين غروب الشمس، حيث تسنى لها بعدها الركوب على متن القطار والتوجه صوبنا بمدينة القنيطرة لإخبارنا بالموت الفاجعة. وبمجرد ما اوصلت الى منزلنا حيث كانت الساعة وقتها تشير الى حدود الساعة الثامنة والربع مساء، حينها كان الليل قد أرخى بستاره الظلامي، حيث قامت خالتي عائشة بطرق الباب بطرقات شبه خافتة وغير مسموعة، حاولت الكرة مرات عديدة الى حين سماع أمي التي كانت تتواجد بالمطبخ بعض اللمسات التي تطال باب منزلنا وتهدأ، لتعمد على اثرها والدتي الى فتحه وبقيت تتكلم بصوت خافت غير مسموع بالأحرى أن يكون مفهوم، بقيت على حالها لبعض دقائق، ثم قالت لخالتي بصوت معتدل لا منخفض ولا مرتفع: ادخلي ولا تخبري والدتي ” امباركة ” وكذا أبنائي بوفاة ابنتي ” نجاة “، وقالت بصوت حزين وهي تتنهد: “رفقا بي يا وجع فلم يبق في القلب متسع”.
يومها كنت مستلقيا على ظهري بأحد الأسرة المتواجدة داخل البيت فيما كانت جدتي “امباركة” رحمها الله تغط في النوم، رغم كون الوقت لم يكن متأخرا في الليل بعد كونها كانت دوما وأبدا تستيقظ فجرا لأداء صلاة الفجر بشكل منتظم ومياوم، لقد تناهى الى سمعي خبر وفاة أختي نجاة رحمها الله، ولم أشأ ابداء أدنى حركة أو قول باستثناء تظاهري كوني في غفلة نوم، وبعد مرور حوالي ربع ساعة تقريبا تظاهرت من جديد باستيقاظي من الغفلة وسلمت على خالتي مرحبا بقدومها الينا، واستأذنت أمي بأن تسمح لي بأن أخرج خارج المنزل لمدة نصف ساعة متظاهرا كون النوم تقد طاير عني جراء سخونة البيت، فسمحت لي بذلك شريطة ألا ابقى خارجه الى وقت متأخر من الليل.
وفور خروجي من المنزل وما ان ابتعدت عنه بحوالي عشرون مترا تقريبا حتى غلبني البكاء وانهمرت عيناي بالدموع، ولكي لا يتفشى الخبر بين جيراننا في ذلك الليل، تواريت عن الأنظار وانزويت في مكان مظلم الى جانب سور مدرسة ” فاطمة الفهرية ” للتعليم الابتدائي التي كانت لا تبعد عن منزلنا كثيرا، وبه جلست مطأطأ الرأس وتارة تارة أخاطب نفسي بكلمات وعبارات لم أجد لها معنى ولا مبرر الى غاية يومنا هذا، حيث كنت أعاتب القدر عن عدم انصافه لنا بعد ظلم والدنا لنا، كما كنت ألعن كل الظروف التي جعلتنا نتواجد وسط مجتمع مجرد من الرحمة والقيم الإنسانية، حيث يقول الزعيم السياسي الأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا: “ما قيمة أن يربح المجتمع المال، ويخسر في مقابله روح الإنسان”.
لقد ماتت أختي “نجاة”، وفارقت روحها هذه الحياة الدنيا، وما بقي منها إلا جثتها، وإكرام الميت دفنه، ولكي نقوم بمراسيم نقل جثمانها من مستودع الأموات بمدينة الرباط الى القنيطرة على متن سيارة نقل الأموات، كان يتوجب علينا وقتئذ كأسرتها تدبير مبلغ مالي في حدود 1000 درهم، لتخصيصه كمصاريف النقل والتنقل، دون احتساب إجراءات ولوازم الدفن، وحفل العزاء، إذ لم نكن يومئذ نتوفر على أي درهم في حوزتنا، فالحالة المعيشية وكما سبق ذكرها كانت جد مزرية، ولكي نتدبر أمرنا، قامت السيدة الوالدة بتكليفي بمهمة الذهاب الى أبي واخباره بوفاة أختي “نجاة” رحمها الله، والتوسل اليه لكي يمدنا بالمبلغ المالي ان لم يكن الوفير فعلى الأقل المطلوب، وبه امتثلت لآوامر والدتي التي حيرتني كثيرا يومها، ليس جراء ما رأيته فيها من صبر وتجلد وحكمة وتعقل وحسن بصيرة فقط، بل لم أرى أي دمع في جفون أعينها، حينها بدأت أطرح بعض الأسئلة لكي أقنع نفسي كون والدتي تمتلك من الصبر ما يضاهي صبر نبي الله “أيوب” عليه السلام.
تراه!.
هل أصيبت أمي بصدمة نفسية إثر علمها بموت أختي “نجاة” رحمها الله؟
هل تقبلت أمي فعلا نبأ فاجعة الوفاة كواقع حتمي، وكابدت الأمر في صمت عميق، وبصبر جميل؟
أم أنها تداري حزنها، وتواري عزائها في داخل وجدانها العميق، كيلا تثير مشاعرنا، وتفيض أحاسيسنا.
ونظرا لتوافذ بعض النسوة علينا من ساكنة العمارة التي نقطها، وشرعهن بالعويل والصياح واللطم والبكاء، حينئذ تدخلت والدتي رغم مصابها الجليل، وأمرت تلك النسوة بألا يرفعن صوتهن في مأثم أختي الى حين أن نعود بثابوت جثمانها من على مستوى مدينة الرباط، ولتلزم كل واحدة منهن صمتها المطبق بمكانها، دون صخب أو غضب، بعذ ذلك بهنيهة لمحتني لا زلت متقاعسا في الذهاب الى لدن والدي من أجل الغرض المطلوب، فتوجهت صوبي بحزن جلي على وجهها ومحياها، وأمرتني للمرة الثانية بالذهاب عالى وجه السرعة وتنفيذ ما طلبته مني بتنفيذه.
آنذاك غادرت المنزل، وتوجهت هائما على وجهي، قاصدا الباب الرئيسي للسوق الأسبوعي المجاور لمنزلنا، كل ذلك في انتظار قدوم والدي الى السوق المذكور من أجل التسوق، حينها سأستغل الفرصة والموقف، وأخبره بنبأ وفاة أختي نجاة، وطلبه مدنا بعضا من المال لجلب جثمانها من الرباط الى القنيطرة، ومواراته بدفنه تحت الترى، وما أن بلغت الساعة 12 و 30 دقيقة ظهيرة تقريبا، حتى رأيت بأم عيني والدي وهو راكب على متن دراجته النارية من نوع “MOBYLETTE” الحمراء اللون، التي كان يستعملها في تنقلاته اضافة الى سيارته من نوع سيمكا البنية اللون، التي ركنها ذاك اليوم بمنزله، ولما ولج بدراجته النارية الباب الرئيسي للسوق المذكور، تعقبته بالسير خلسة من ورائه، متعقبا آثاره الى حين أن نزل من على متنها، واستوقفها واستفسر بائع الخضر عن ثمن كل من خضر البطاطس والطماطم، فأجابه البائع ثمنها بكذا وكذا، فانحنى لكي يختار ما يكفيه لسد حاجياته منها طيلة الأسبوع القادم، وبينما هو كذلك حتى انحنيت على يده اليمنى التي يعزل بها الخضروات وقبلتها، فسألني عما أفعله داخل السوق، فأجبته والدمع قد غمر أعيني، قائلا له:
لقد ماتت أختي نجاة يا أبي.
لقد ماتت يا أبي جراء معاناتها من مرضها “الفشل الكلوي”.
فعقب على كلامي، قائلا لي:
وما هو المطلوب مني.
فأجبته: “لا شيء يا أبي سوى مساعدتنا لجلب جثمانها ودفنها هنا بمدينة القنيطرة”.
ليختم معي القول، قائلا لي:
تدبروا أمركم، ولما ستجلبونها الى مدينة القنيطرة، حينها تعالى الى منزلي لكي أمنحك مبلغ “80 درهما” ثمن تكلفة حفر قبرها بالروضة المذكورة.
هذا كل ما دار بيني وبين والدي يومها سامحه الله في الدنيا والآخرة. ودون التعقيب على كلامه، انحنيت إلى الأمام مجددا، وقبلت يده اليمنى، وعدت منصرفا صوب والدتي لاطلاعها بفحوى كلام والدي، ومشاعره الباردة اتجاه سماعه نبأ وفاة أختي “نجاة” رحمها الله، ولكني كنت حريصا كل الحرص رغم صغر سني بألا أجرح مشاعر وأحاسيس والدتي المكلومة بالفاجعة، وما كان مني الا أن عرجت على يسار باب السوق المذكور، وركنت جالسا فوق حجرة كبيرة، لكي أستجمع نفسيتي المشتتة جراء ما لاقيته من جفاء المشاعر، وبرودة الأحاسيس التي طبعت فؤاد والدي وقست على قلبه، وقلت في أعماق نفسي:
لماذا يكرهنا والدي؟
لماذا لا يحسن الينا ونحن أحياء؟
لماذا لا يكلف نفسه عناء دفننا عندما نموت؟
آه منك يا أبي، ثم آه.
آه منك، لكم أخشى عليك من غضب الله عندما تسيء إلينا وتكسر خواطرنا.
لم أقل قولي الخفي هذا في حق والدي سبا مني في حقه، ولا قذفا أو قدحا، بل هو نوع من تهدئة النفس الأمارة بالسوء لكيلا أسمح لها بكن المزيد من الضغينة والحقد عليه، وقمت من مقامي وتوجهت صوب منزل والدتي، وأنا في طريقي اليه، لكم من مرة رفعت بصري الى السماء وطلبت من الله العلي القدير، بأن يقوم والدي بالعدول عن رأيه العنيد، وتصحيح خطأه الأناني، وليقصد منزل والدتي، وليمدها بالمال المطلوب، وأنا أمشي في طريقي صوب المنزل، وتارة تلو الأخرى أرفع بصري صوب السماء، وأطلب من الله ما سبق ذكره، الى حين أن وصلت منزلنا، فطرقته، وفتحت أختي تورية بابه في وجهي، وسألتني بشكل فجائي عما اذا كنت قد جلبت المال من لدن أبي أو لا. فقلت لها تريثي قليلا يا أختي، ولا تشمتي فينا الجيران، فقالت لي كيف لي أن أشمتهم فينا، فقلت لها بصوت منخفض، ان أبي سامحه الله جسد بروح، لكن بدون قلب أو ضمير.
… يتبع …
المغرب