القيمة الثانية والعشرون
عن تفسير قوله تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا }
حينما كنت خارجا في الصباح و متوجها إلي عملي علي بركة الله ، وهممت أن أقرأ الورد اليومى لي من القرآن الكريم وقفت عند قول الله تعالى في خواتيم سورة العنكبوت وهو قول الله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)} سورة العنكبوت..
ووقفت مع هذا الآيات أكررها عدة مرات لماذا نص الله تعالي علي جزاء الصالحين بأن يبوءهم من الجنة غرفا ؟ وذهب بي التفكير إلي عدة معان نورانية و اشراقية منها، لماذا عبر بالذين وهو الاسم الموصول الدال علي الأعلام والأشخاص ؟ ولماذا عبر بنبوءهم الدالة علي الاستقرار والتمكن ؟ ولماذا ذكر غرف الجنة ؟ وبأي شئ قد نالوا هذا الثواب العظيم ؟ وهل الصبر والتوكل علي الله كافيان في الفوز بالجنة ؟ ومعان أخري لا أستطيع البوح به كلها ولكن أذكر بعضها في ثنايا المقال ..
ولكني أردت أن أتأكد مما وصلت إليه فذهبت إلي كتب التفسير لأرى ماقاله السادة المفسرين في الآية فوجدت خيرا كثيرا
فقالوا عن قراءتها:
وو قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي : ( لنثوينهم ) بالثاء مكان الباء من الثوي وهو الإقامة ; أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها .
وقرأ رويس عن يعقوب والجحدري والسلمي : ( ليبوئنهم ) بالياء مكان النون أي أن الله تعالي سيبوءهم ، و الباقون ( لنبوئنهم ) بالنوم نون العظمة والكبرياء والملك ، أي لننزلنهم ( غرفا ) جمع غرفة وهي العلية المشرفة .
وقال الطبري في تفسيرها :
وجاء في صحيح مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالفقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا)، يعني: صدقوا الله ورسوله فيما جاء به من عند الله، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وعملوا بما أمرهم الله فأطاعوه فيه، وانتهوا عما نهاهم عنه ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ) يقول: لننـزلنهم من الجنة عَلالي ،
وقوله: ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول: تجري من تحت أشجارها الأنهار (خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية، (نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ) يقول: نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرفُ التي يُثْوِيهُمُوها الله في جنَاته، تجرى من تحتها الأنهار. …(تفسير الطبري)
ويقول ابن كثير في تفسيرها :ولهذا قال : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار ) أي : لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحتها الأنهار ، على اختلاف أصنافها ، من ماء وخمر ، وعسل ولبن ، يصرفونها ويجرونها حيث شاءوا ، ( خالدين فيها ) أي : ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا ( نعم أجر العاملين ) : نعمت هذه الغرف أجرا على أعمال المؤمنين .( تفسير ابن كثير ) .
قلت : وهذا شبيه بما جاء في سورة آل عمران في قوله سبحانه: {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} (آل عمران:136). و قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} (العنكبوت:58).
حيث ختمت الآية الأولي في آل عمران بقوله سبحانه: {ونعم أجر العاملين} فجاءت الجملة معطوفة بحرف (الواو)، وختمت الآية الثانية في العنكبوت بقوله تعالى: {نعم أجر العاملين} فجاءت الجملة من غير عطف.
والسؤال الذي يرد هنا: لماذا جاء ختام الآية الأولى معطوفاً بحرف الواو، وجاء ختام الآية الثانية خالياً من العطف؟
لم نقف على كلام في هذا في التفاسير المعتمدة، لكن الذين كتبوا في متشابه القرآن أجابوا عن هذا السؤال بأجوبة قريبة وجميلة ووافية :
فقال ( الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله):
في هذا: أن الآية في سورة آل عمران مبنية على تداخل الأخبار؛ لأن أولها: {جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}، فـ {أولئك} مبتدأ، و{جزاؤهم} مبتدأ ثان، و{مغفرة} خبر المبتدأ الثاني، وهو مع خبره خبر عن المبتدأ الأول، والجزاء هو الأجر، فكأنه قال: أولئك أجرهم على أعمالهم محو ذنوبهم، وإدامة نعمهم، وهذا الأجر مفضل على كل أجر يعطاه عامل على عمله، فنُسِّقت الأخبار بعضها على بعض؛ للتنبيه على النِّعم التي هيئت للعاملين وَفْقَ ما شرعه الله سبحانه.
و(الخبر) إذا جاء بعد خبر في سياق تفصَّل فيه المواهب المرغب فيها، فحقه أن يُعطف على ما قبله بـ (الواو)، كقولك: هذا جزاء كذا وكذا، أي: هو ترك المؤاخذة بالذنب، والتنعم في جنة الخلد، وتفضيله على كل جزاء جوزي به عامل، وذلك تشريف وكرامة.
هذا ما أفاض به علينا في فهمه لآية آل عمران ،
وأما الآية التي في سورة العنكبوت:
فإن ما قبلها مبني على أن يدرج الكلام فيه على جملة واحدة، وهي: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين}، فقوله: {والذين آمنوا} مبتدأ، وقوله: {لنبوئنهم} جملة فعلية في موضع الخبر، وهذا الخبر يتصل به مفعولان، الأول: (هم) والثاني {غرفا}، و{غرفا} نكرة موصوفة بقوله: {تجري من تحتها الأنهار}، وقوله: {خالدين فيها} حال من {لنبوئنهم}.
فلما جُعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد، وهي جملة ابتداء وخبر، واحتمل {نعم أجر العاملين} أن تجيء بـ (الواو) وأن تجيء من دونها، اختير مجيئها بغير (واو)؛ ليشبه ما تقدم من صفة الخبر، لا على سبيل العطف عليها، والنسق بها. هذا حاصل ما ذكره الإسكافي.
وذكر احتمالاً آخر :
وهو أن يكون قوله سبحانه: {نعم أجر العاملين} في موضع خبر ومبتدأ، كأنه قال: (ذلك نعم أجر العاملين)، ويكون قوله: (ذلك) إشارة إلى ما ذكر الله من إسكانهم الجنة، فيجري بلا (واو) مجرى ما هو من تمام الكلام، كقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} (الشورى:22)، فقوله: {ذلك} وإن انقطع عن الأول في اللفظ، فإنه متصل به من طريق المعنى، فكأنه قال: {لهم ما يشاؤون عند ربهم} مشار إليه بأنه الفضل الكبير.
فقوله عز وجل: {نعم أجر العاملين} أي: ذلك نعم أجر العاملين، والمعنى مشار إليه بتفضيل على أجور العاملين. وإذا كان الأمر على ما ذُكِرَ في الآيتين لم يَلِقْ بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به.
وقريب مما ذكره ( الخطيب الإسكافي ) ما قاله ( ابن الزبير الغرناطي ) في توجيه هذا الاختلاف:
فقد ذكر أن آية آل عمران لما وقع فيها ذكر (الجزاء) مفصلاً معطوفاً، فقيل: {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} ناسبه عطف الجملة الممدوح بها الجزاء، فقيل: {ونعم أجر العاملين}، ولما لم يفصِّل الجزاء في سورة العنكبوت، ولا وقع فيه عطف، جاءت جملة المدح غير معطوفة ليتناسب النظم.
ونسج ( الإمام ابن جماعة ) على المنوال نفسه في الجواب على الفرق بين الآيتين، فقال:
لما تقدم عطف الأوصاف المتقدمة، وهي قوله: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} (آل عمران:134)، {والذين إذا فعلوا فاحشة} (آل عمران:135)، {ولم يصروا} (آل عمران:135)، و{جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات}، و(خلود) ناسب ذلك العطف بـ (الواو) المؤذنة بالتعدد والتفخيم. ولم يتقدم مثله في سورة العنكبوت، فجاءت بغير (واو)، كأنه تمام الجملة.
وقال ( ابن عاشور): حيث اعتبر أن قوله سبحانه: {نعم أجر العاملين}، كلام جديد مقطوع عن سابقه، وهو إنشاء ثناء وتعجيب على الأجر الذي أعطوه، فلذلك قُطِعت عن العطف، بخلاف ما عليه الحال في سورة آل عمران.
وتحدثت الشدسنةوعن ثواب أهل الجنة فجاء في صحيح مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم .
قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .
وخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها .
فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب ( التذكرة ) والحمد لله . ( تفسير القرطبي ) .
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) عطف على جملة والذين آمنوا بالباطل .
وجيء بالاسم الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، أي نبوئهم غرفا لأجل إيمانهم وعملهم الصالح
وجملة نعم أجر العاملين إلخ إنشاء ثناء وتعجيب على الأجر الذي أعطوه ؛ فلذلك قطعت عن العطف .
و سورة العنكبوت هي سورة مكية وجاء ترتيبها 29 في المصحف الكريم وعدد آياتها 69.
وتحدثت عن الله تعالى يجازي من أحسن عبادته وجمع بين الإيمان والعمل الصالح بإنزاله الغرف العالية، والمنازل الأنيقة الجامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون.
فـ { نعم } تلك المنازل، في جنات النعيم { أَجْرُ الْعَامِلِينَ } للّه.
وغُرَفًا﴿٥٨ العنكبوت﴾ منازل عالية في الجنة
غرف الغرف: رفع الشيء وتناوله، يقال: غرفت الماء والمرق، والغرفة: ما يغترف، والغرفة للمرة، والمغرفة: لما يتناول به. قال تعالى: ﴿إلا من اغترف غرفة بيده﴾ [البقرة/249]، ومنه استعير: غرفت عرف الفرس: إذا جززته (راجع المجمل 3/694)، وغرفت الشجرة، والغرف: شجر معروف، وغرفت الإبل: اشتكت من أكله (قال السرقسطي: غرفت الإبل: اشتكت بطونها من أكل الغرف. انظر: الأفعال 2/16)، والغرفة: علية من البناء، وسمي منازل الجنة غرفا. قال تعالى: ﴿أولئك يجزون الغرفة بما صبروا﴾ [الفرقان/75]، وقال: ﴿لنبوئنهم من الجنة غرفا﴾ [العنكبوت/58]، ﴿وهم في الغرفات آمنون﴾ [سبأ/37]
وعن غَريبُ الكَلِماتِ:
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ: أي: لَنُنزِلَنَّهم، ولَنُسْكِنَنَّهم، يُقالُ: بوَّأتُه منزلًا، إذا أنزلتَه ومكَّنْتَ له فيه، وأصل (بوأ): يدُلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ .
غُرَفًا: أي: مَنازِلَ عاليةً في الجنَّةِ
ويخبِرُ سُبحانَه عمَّا أعَدَّه للمؤمنينَ الصادِقينَ مِن حُسنِ الجزاءِ، فيقولُ: والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ لَنُسْكِنَنَّهم في مَنازِلَ عاليةٍ مِن الجنَّةِ، تَجري مِن تحتِ تلك المنازِلِ أنهارُ الجنَّةِ، خالِدينَ فيها أبدًا، نِعْمَ جزاءُ العامِلينَ تلك المنازِلُ العاليةُ، وهم الَّذين صَبَروا على طاعةِ اللهِ والأذى في سبيلِه، وعلى رَبِّهم وَحْدَه يَعتَمِدونَ.
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَتراءَونَ أهلَ الغُرَفِ مِن فَوقِهم، كما يَتراءَونَ الكَوكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ في الأُفُقِ ، مِنَ المَشرقِ أو المَغربِ؛ لِتَفاضُلِ ما بيْنَهم! قالوا: يا رسولَ اللهِ، تلك مَنازِلُ الأنبياءِ لا يَبلُغُها غَيرُهم؟ قال: بلى، والَّذي نفْسي بيَدِه، رِجالٌ آمَنوا بالله، وصَدَّقوا المُرسَلينَ )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ غُرْفةً يُرى ظاهِرُها مِن باطِنِها، وباطِنُها مِن ظاهِرِها! فقال أبو موسى الأَشْعَريُّ: لِمَن هي يا رسولَ الله؟ قال: لِمَن أَلانَ الكلامَ، وأطعَمَ الطَّعامَ، وبات لله قائِمًا والنَّاسُ نِيامٌ))
{ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي: نِعْمَ جزاءُ العامِلينَ في الدُّنيا بطاعةِ اللهِ؛ تلك المنازِلُ العاليةُ الَّتي يُسكِنُهم اللهُ إيَّاها في جنَّتِه، وتَجري مِن تحتِها الأنهارُ خالِدينَ فيها .
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59).
أي: الَّذين صَبَروا على طاعةِ اللهِ وإقامةِ دينِه،وتحمَّلوا أذَى المُشرِكينَ، وصَبَروا على مُفارَقةِ أوطانِهم؛ فِرارًا مِنَ الفِتَنِ، وعلى رَبِّهم وَحْدَه يَعتَمِدونَ في أمورِ دينِهم ودُنياهم، فلا يَستعينونَ بغيرِ اللهِ في جهادِ أعدائِهم، وطلَبِ أرزاقِهم، وغيرِ ذلك مِن أمورِهم .