هناك قول منسوب إلى الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ـ رحمه الله ـ بأن “إسرائيل لا تحتمل هزيمة واحدة”، وهذا ما نراه بأعيننا اليوم، فإسرائيل دولة عسكرية قوية، مدججة بأحدث الأسلحة، وقوتها ـ كما نعرف ـ ليست من ذاتها، وإنما من الدعم الأمريكى الغربي غير المحدود، الذى يمدها بالمال والسلاح والمقاتلين والمستوطنين، ويحميها من أي تهديد، لكن إسرائيل ليست تكوينا طبيعيا لشعب وأمة متجانسة، وإنما هي مشروع استعماري لمهاجرين اجتمعوا حول حلم صهيوني مزعوم، يتدثر بالدين ويغري بالثراء والرفاهية، لذلك فالمجتمع الإسرائيلي مجتمع هش، لايصمد أمام هزيمة واحدة، ولا يحتمل كلفتها.
وفي ظني أن هذه الحقيقة هي التي تتعامل المقاومة الفلسطينية على أساسها، فتصدر إلى الإسرائيليين ما يوجعهم اجتماعيا، وليس عسكريا فحسب، لتجعلهم يتألمون كما يتألم الفلسطيني، مع فارق مهم، أن الفلسطيني يحتسب ألمه ووجعه في سبيل الله والوطن، فموته شهادة، وصبره على فقدان الأهل عبادة، أما المهاجر الصهيوني المغامر فلا يكاد يشاك شوكة حتى يفكر في الهجرة العكسية، ويرحل عن الأرض الملغومة، متنازلا بسرعة فائقة عن الحلم الذى تحول إلى كابوس.
وإسرائيل اليوم لم تعد أرض المن والسلوى كما كانت تبشر المنظمة الصهيونية العالمية، وإنما صارت أرض الطوفان والرهائن والكمائن وصواريخ القسام، وهذه بلاءات لا طاقة للمهاجرين المارين على احتمالها، كما يحتمل الفلسطيني فظاعة تدمير منزل عائلته واستشهاد كل أفرادها بصبر وجلد، أو كما تحتمل الفلسطينية مرارة استشهاد زوجها وولدها، فتتحدى الموت، وتطلق الزغاريد فى وداعهما.
ومثلما توقف محللون كثيرون بإعجاب أمام ثبات الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح عند استشهاد أفراد عائلته، بمن فيهم زوجته وابنتاه وابناه (أحدهما ابنه الصحفي حمزة الدحدوح)، توقف محللون كثيرون أيضا أمام استقبال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خبر استشهاد ستة من أبنائه وأحفاده في غزة بثبات منقطع النظير، حيث اكتفى بالقول”الله يسهل عليهم، نعمة واستشهاد”، ثم أدلى بتصريحات نقلتها شبكة (بي بي سي) البريطانية قال فيها: “إن دماء أبنائي وأحفادي الشهداء ليست أغلى من دماء أبناء الشعب الفلسطيني، أشكر الله على هذا الشرف الذي أكرمني به باستشهاد أبنائي الثلاثة وبعض الأحفاد، مع ما يقرب من 60 شخصا من عائلتى، فكل أبناء الشعب الفلسطيني وعائلات غزة دفعوا ثمنا باهظا من دماء أبنائهم، وأنا واحد منهم، وبهذه الدماء والآلام نصنع الآمال والمستقبل والحرية، وإذا ظن العدو أنه بقتل أبنائي وأحفادي سيدفعنا إلى تغيير مواقفنا تجاه الهدنة أو وقف إطلاق النار فهو واهم، ولن ينجح في أهدافه”.
ولعل اغتيال أبناء وأحفاد هنية جاء ليرد للرجل اعتباره، بعد حملة تشويه واسعة ضده قادها الإعلام الصهيوني، زعم فيها أن أفراد أسرته غادروا غزة جميعا قبل الطوفان ليعيشوا آمنين في فنادق قطر وتركيا، وأنه شخصيا قد تزوج بشابة يتنعم معها، بينما شعبه يموت بالمئات كل يوم.
وقد نشرت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية فى افتتاحيتها الخميس الماضي تحليلا بعنوان (إنقذوا الرهائن..إنقذوا إسرائيل) قالت فيه: “من غير المتوقع أن يؤدى اغتيال أبناء هنية إلى إضعاف حماس، أو تليين مواقفها التفاوضية، تماما كما لم تساعد الضغوط العسكرية في إطلاق سراح الرهائن، بالعكس، سيؤدي الاغتيال إلى تعزيز مكانة هنية بين أبناء شعبه، ومحو الصورة المشوهة التى أريد رسمها له كشخص يعيش حياة الترف في قطر، منفصلا عن شعبه الذي يعاني في غزة، وسواء أكان نتنياهو قد أمر بالاغتيال أم لم يعلم به، فهذا دليل آخر على عيوبه المتعددة، والخطر الذي يمثله استمرار حكومته الفاسدة على حياة الرهائن في غزة”.
وتنشر الصحف الإسرائيلية تقارير يومية عن التكاليف الباهظة التى تدفعها إسرائيل ثمنا للحرب، والتى تبلغ أكثر من مئة مليون دولار يوميا، تشمل طلعات الطائرات ووقود الآليات واستهلاك الذخائر والصواريخ وتعطل الحركة التجارية وهبوط البورصة وتوقف معظم المؤسسات وأعمال البناء، والشلل التام في مجالات الزراعة والصناعة وموت الدواجن، وتعطل بعض المطارات وبعض خطوط القطارات، وفواتير إطعام الهاربين إلى الملاجئ، فضلا عن الدمار الذي لحق بالبيوت والمحلات والسيارات والمصانع بفعل صواريخ المقاومة التى تطلق من غزة وجنوب لبنان.
وتقول الصحف إن هذه الخسائر(نذير شؤم) على الدولة، التي تأكد سياسيوها أن حساباتهم كانت مغلوطة، وسياساتهم كانت تحتاج لأفق أبعد مما يفكرون فيه، لأن الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة وهذا الكبرياء والتحدي، ليس كاليهودي الذي يحزم أمتعته ويسارع إلى الهجرة عند أول خسارة يخسرها.
وإلى جانب الأزمات الكثيرة التي تهدد المجتمع الإسرائيلي من الداخل، هناك 3 ظواهر جديدة صارت تشكل تهديدا إضافيا للمشروع الصهيوني من الخارج هي:
ـ وصول صواريخ ومسيرات من إيران إلى إسرائيل مباشرة لأول مرة فى التاريخ، وهي تجربة جريئة رغم محدودية تأثيرها، وبداية خطيرة لكسر هيبة الجيش الذي قيل إنه لايقهر.
ـ وجود مؤشرات واضحة في أوروبا على الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطين ودعم عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة نتيجة لضغط الرأي العام (إسبانيا والنرويج وأيرلندا ومالطا وسلوفانيا والبرتغال نموذجا).
ـ اتساع دائرة الاتهام بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، لتشمل إلى جانب إسرائيل الدول الداعمة لها، وقد دخلت ألمانيا دائرة الاتهام على يد نيكاراجوا، والمنتظر أن تأتي بعدها فرنسا وأمريكا، ما يعني أن ثمن الوقوف مع إسرائيل أصبح فادحا، وتصدير السلاح إليها صار جريمة تاريخية وخرقا للقانون الدولي.