مع احتمالات تزايد التصعيد بين إيران وإسرائيل، هناك تخوف حقيقي من أن تنفلت الأوضاع فجأة في الشرق الأوسط، وتنزلق المنطقة إلى صراع متعدد الأطراف، يتوارى معه الاهتمام العالمي بالجريمة البشعة التي يرتكبها في غزة العدو الصهيوني وحلفاؤه، والتي هي أساس كل الكوارث في بلادنا، ويخفت صوت الحق الفلسطيني وسط صياح الشرق والغرب.
ومع كل ضربة تخرج من تل أبيب إلى طهران أو العكس، يقف العالم على أطراف أصابعه، ويعلو التحذير من اندلاع حرب عالمية ثالثة، بينما غزة لا تزال تعاني، ويعيش أهلها ظروفا غير آدمية تحت حصار خانق، وقصف مستمر ليل نهار، لايجدون ما يكفيهم من طعام أو شراب، أو مأوى يحميهم من الصواريخ والقنابل التى تلقى عليهم، والتى قدرت بقنبلتين نوويتين، وتزداد المخاوف بشأن الهجوم المتوقع على رفح المكتظة بمليون وثلاثمئة من النازحين، دون أن تكون هناك بارقة أمل لوقف إطلاق النار.
وليس بمستبعد أن يكون توقيت التصعيد بين إسرائيل وإيران مقصودا بدقة من جانب مايسترو النظام العالمي، الذي ما فتىء يحرك قطع الشطرنج على الرقعة الملتهبة كيفما يشاء ووقتما يشاء، كي يخلق واقعا يسمح بتنفيذ مخططاته، وتغيير المعادلات على حساب الشعوب المستضعفة، وهو ما جعل صحيفة ” نيويورك تايمز” الأمريكية تقول في افتتاحيتها إن الصراع مع إيران قدم لنتنياهو “شريان حياة” في اللحظة الحرجة، وأخرجه من الضغوط الداخلية والخارجية الهائلة التي تعرض لها بسبب مقتل سبعة من عمال مؤسسة (المطبخ المركزي العالمي) الخيرية في غزة أول أبريل الجاري، إلى جانب استمرار أزمة الرهائن دون حل.
وليس بمستبعد أيضا أن يكون هناك تنسيق بين المايسترو الأمريكي وإسرائيل لتسخين المواجهة مع إيران تسخينا منضبطا ومحسوبا، لصرف الأنظار بعيدا عن جريمة الإبادة الجماعية في غزة، حتى ينشغل العالم بلعبة الصواريخ المتبادلة بين طهران وتل أبيب، والتخويف الدائم من اندلاع حرب عالمية، وينسى ما يحدث في غزة، وهذا ما يشير إليه مقال الكاتب الإسرائيلي أور يساكر في صحيفة (يديعوت أحرونوت) يوم 13 أبريل الجاري بعنوان: “لماذا ينصب اهتمام العالم على غزة بدلا من إيران؟”، ويقول فيه: “يجب أن نقدم باستمرار الوضع بين إسرائيل وحماس ليس على أنه حرب إسرائيل ضد غزة، كما يطلق عليها، ولكن على أنها حرب إسرائيلية ـ إيرانية في المقام الأول، وعندما يتم تصويرها بهذه الطريقة تتضح الأمور أكثر، ويبدو أن أعضاء البرلمان الأوروبي والكونجرس الأمريكي قد استوعبوا أخيرا السبب الذي يجعل إسرائيل مشغولة بحرب وجودية لمدة ستة أشهر حتى الآن”.
هذا أبلغ شاهد على التضليل الذي تمارسه إسرائيل برعاية المايسترو الأمريكي، وهو تضليل يلعب على تغييب الحقائق، وخلق صورة ذهنية مزيفة ومصطنعة للصراع التاريخي الممتد في فلسطين، حيث يصور هذا الصراع على أنه في الأساس بين إسرائيل وإيران، ثم بالتبعية بين إسرائيل وحماس، باعتبارها ذراعا لإيران، وكل من يحمل السلاح في وجه إسرائيل إرهابي عميل لإيران، ومن ثم فلا وجود لقضية أرض مغتصبة، ووطن محتل، وحقوق شعب مشرد محاصر، ومقدسات منتهكة، ومقاومة مشروعة لقوة غاشمة مدججة بالسلاح، ومدعومة من أقوى الدول والمنظمات العالمية.
ولكي لا ننسى فإن هجوم إسرائيل على المجمع الدبلوماسي الإيراني في دمشق، جاء بعد ساعات قلائل من مقتل عمال المطبخ المركزي، لتخفيف حملة الإدانة الدولية العارمة التي تعرضت لها إسرائيل بسبب هذه الجريمة، ثم جاء الرد الإيراني لتقف أمريكا وحلفاؤها كتفا إلى كتف دفاعا عن إسرائيل، ولينتفخ نتنياهو من جديد متباهيا بأن سماء الشرق الأوسط كله مفتوحة أمام طائراته وصواريخه، وبأنه اسنطاع تشكيل تحالف قوي لمواجهة إيران وأذرعها في المنطقة.
لقد نجحت الخطة إذن، وأكد المايسترو الأمريكي من جديد أن دعمه لإسرائيل “صارم”، وحلت عبارات التضامن معها محل التظاهرات وهتافات التنديد في شوارع المدن الأوروبية والأمريكية، والإسرائيلية أيضا، وأتيحت لنتنياهو فرص سياسية جديدة، وغابت غزة عن العناوين الرئيسية للأخبار.
وفى غضون ذلك لم يكف المايسترو الأمريكي عن ممارسة أسوأ ألوان المراوغة، فقد قدم شحنات الأسلحة لإسرائيل، لكنه مازال يدعوها إلى ضبط النفس والتعامل بمسئولية!! واستخدم الفيتو لمنع قبول عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، لكنه أكد وقوفه إلى جانب حل الدولتين!! وأعلن رفضه لعملية موسعة في رفح لكنه يغمض عينيه عن الغارات التى لا تتوقف على النازحين المدنيين فى مخيمات غزة، واستشهاد المئات منهم يوميا، وتناسى حماسه المصطنع لضرورة إغراق غزة بالمساعدات!!
والحقيقة أن هذه المراوغة ليست جديدة علينا، فقد ألفناها في كل مراحل الصراع، حيث يعطينا المايسترو من طرف اللسان حلاوة، لكن مواقفه وأسلحته تقدم بسخاء لإسرائيل كي تفعل ماتشاء، وهي متأكدة وضامنة أن القرار الأمريكي معها على طول الخط، فهي الذراع التى ينفذ بها مخططاته في بلادنا.
ومن عجب أن ترصد صحيفة (الجارديان) البريطانية في افتتاحيتها الخميس الماضي هذه اللعبة السخيفة، وتحذر من أن شبح اتساع الصراع الإقليمي، وما قد ينتج عنه من ضحايا، يجب ألا يصرف الانتباه عما يقرب من 34 ألف فلسطيني قتلوا بالفعل، وغيرهم الكثير الذين سيموتون قريبا بسبب المجاعة التى يعيشها أهل غزة، والتى ستستمر في حصد المزيد من الأرواح، ورغم ما يبدو من انفصال ظاهري بين القضيتين إلا أنهما في الحقيقة مرتبطتان، فوقف إطلاق النار في غزة والإفراج عن الرهائن إلى جانب الزيادة الموعودة فى المساعدات، من شأنه أن يساعد في نزع فتيل التوترات الإقليمية، وإيجاد طريق للخروج من المخاطر.