يتبادر إلى الأذهان من آن لآخر تساؤلات حول كيفية وأهمية إثراء ثقافة التسامح الفكري والمجتمعي، والديني ،وأسئلة أخرى جمة حول مهام النخبة نحو النهوض بالمجتمع والمشاركة الفعالة في الحفاظ علي استقراره النفسي والوجداني.
كما أن هناك علامات استفهام أخري تبحث عن الحلقات المفقودة والأدوار المنوطة بهؤلاء النخب والمتوقعة منهم لإيجاد حلول مبدعة لبعض الأزمات الثقافية والاقتصادية التي تواجه بلادنا في ظروف إقليمية بالغة التشابك والتعقيد.
ولا يختلف اثنان علي أن من أهم مقتضيات البناء التربوي والوجداني والوطني غرس ثقافة التسامح الاجتماعي باعتباره مفهوما شاملا يعكس كافة القيم والتطبيقات الاجتماعية السمحة، التي تنعكس على سلوك أفراد المجتمع ، بما يضمن حصولهم جميعا على الأمن والسلم الاجتماعي الشامل، تحت مظلةٍ تسع الجميع، وتضمن لكلّ فردٍ حقوقه بعد أن يؤدي تمام واجباته ،وتتيح له تحديد ملامح مستقبله بكل حرية ودون وصاية، أو توجيه بالأمر المباشر ،وبعيدا عن المناطحة والاحتراب والجدل العقيم.
كما يمثل التسامح المجتمعي حالة فريدة تجمع بين مزايا العيش الكريم، والأخلاق الحميدة في التعامل واحترام الآخر، وتقديره وتثمين ما يقدمه للمجتمع من عطاء، ممّا يوفّر لكافة الأفراد البيئة الآمنة والمناسبة للعيش في أمن معنوي ،ومن ثم الإسهام في إعداد وتربية أجيال أكثر إيجابية وعطاء.
ووفقا لعلماء النفس والاجتماع فإن من أهم ما يتضمنه التسامح الاجتماعي، الحرص على حسن تنشئة الأبناء، وحثّهم على أخلاق التسامح وتطبيقها في التعاملات المختلفة، وتشمل هذه التنشئة البيئةَ التعليمية، حيث يجب أن تشتمل المناهج الدراسية -بمختلف مراحل التعليم من الروضة وحتي الجامعة- على تعريف الطلاب على أهمية قيمة التسامح وضرورته للفرد والمجتمع، إلى جانب البرامج والمشروعات العملية التي تساعد على تطبيق هذه المفاهيم والقيم، ممّا يهيّئ اطفال وشباب اليوم لحمل هذه القيم في تعاملاتهم وتفاعلهم مع الآخر مستقبلًا.
ولا شك أن تطبيق قيم التسامح الاجتماعي بين مختلف أفراد المجتمع يسهم في ترسيخ الاحترام المتبادل وتقدير الأفكار والمعتقدات والتجارب المختلفة، وبذلك يكون كل فرد محل تقدير واحترام، حيث يرتبط مفهوم التسامح الاجتماعي بمفهوم الأخلاق، التي تُستمد من التربية الفردية والمجتمعية، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى التباين الذي تتمتع به المجتمعات البشرية؛ نظرا للفروق الثقافية والفردية، وهو ما يؤكّد على ضرورة ترسيخ هذه القيم؛ لتعديل وتقويم أي سلوكيات تتنافى مع ما يدعو إليه التسامح الاجتماعيّ.
واتفق تماما مع من تيقنوا أن المجتمعات التي تعمل على توطين وترسيخ مفاهيم وقيم التسامح بين أفرادها؛ تنعم بحياةٍ كريمةٍ هادئةٍ لا تعرف سوى الإنتاج والجودة والتميز والإبداع والتعاون بين أفرادها، وبالتالي الوصول إلى أكبر قدرٍ من الأمن النفسي والاجتماعي، فالتسامح في هذه الحالة الأساس الأهم لبناء المجتمعات الحديثة، الهدف والوسيلة، وبه يرتقي المجتمع، ومن خلاله يحصل كلّ فردٍ على حياة هادئة وكريمة، فيكتمل بذلك سياج الأمن وحصن التقدير الشخصي والمجتمعيّ.
وأتصور أنه وبنفس القدر من الأهمية تأتي ثقافة التسامح الفكري،بما يعنيه من تقبل واحترام آراء الآخرين فكرياً من النواحي الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية لتعزيز مفهوم العفو والمودة والتصالح والتعايش السلميّ بين الأفراد والمجتمعات، والعمل على رفع المستوى الأخلاقي والإنساني بينهم.وبطبيعة الحال هذا لا يعني تبني أفكار ومعتقدات الآخر، وإنما تقبلها والتسامح معها، فالتكوين المجتمعي يحتاج إلى ذلك بسبب اختلاف معتقداته، وعاداته، ودينه، وطوائفه، فلكل شخص أفكاره وتطلعاته وقناعات التي لا يتدخل فيها أحد وبالتالي يأتي الحصاد مثمرا، حيث يتولد التنوع الفكري تحت إطار الحرية والديموقراطية والسلامة النفسية.
ويكمن عبقرية التسامح الفكري في إعداد القلوب البيضاء الخالية من الأحقاد والضغائن بغية تحقيق القيم الفضلى لكونه فرصة لغرس معاني الحب ، والعفو، والازدهار المجتمعي، والاقتصادي، والعاطفي، ويخلق مجتمعاً يشعر الناس فيه بالتكيف الإيجابي وبالتقدير والاحترام المتبادل من خلال رفع الوعي الثقافي والأخلاقي.
كما يعد التسامح الفكري مهماً لأنه يشمل جانباً أساسياً لبناء مجتمع إيجابي، عن طريق القضاء على التعصب بجميع أشكاله، والامتثال للتوجيهات العقيدية والدينية، والشعور بالسكينة والاطمئنان والراحة النفسية.
ومن أهم سبل إثراء مفهوم التسامح الفكري ، الاستماع والانصات فهو وسيلة للتفاهم والاحترام بإعطاء مجال للشخص الآخر للتعبير عن رأيه بكل سلاسة وحرية.وأيضا إعطاء مساحة للتفكير: وتتمثل هذه العملية من خلال التفكير في وجهة نظر الشخص الذي يناقشه الفرد، وفي استيعاب السبب الذي جعله يفكر بهذه الطريقة.ومن أهم سبل إثراء التسامح الفكري التعلّم: وذلك عن طريق البحث عن معلومات جديدة والتعرّف على حياة الآخرين ورفع المستوى الثقافي.
وقد يري البعض أن تفعيل ثقافة التسامح بمفهومها العام وبكافة صنوفها دربا من دروب المستحيل أو نوعا من المثالية المفرطة مع كثرة التحديات وحالات التراجع القيمي الكبير وانهيار القيم الأخلاقية في هذه الآونة ،لكن شواهد التاريخ تؤكد أنها تطلعا مشروعا له العديد من النماذج،وهناك العديد من الرموز والشخصيات المؤثرة التي رسّخت مفهوم التسامح الفكري في أذهان أفراد المجتمعات، منها علي سبيل المثال لا الحصر:-ابن تيمية: يُعرف ابن تيمية بالتسامح واحترام الآخر ،وله بعض المواقف التي تشهد تسامحه منها موقفه مع علي بن يعقوب البكري؛ فعندما ألّف ابن تيمية رسالة مختصرة بعنوان: (الاستغاثة) ،والتب شملت أحكام شرعية في الاستغاثة اختلف معه بعض العلماء وناقشوه بأسلوب مدعم بالأدلة والبراهين، باستثناء الشيخ الصوفي علي البكري الذي كانت ردة فعله باتهامه بالكفر والخروج من ملة الإسلام؛ إلا أن ابن تيمية قابله بالتسامح والكرم والعفو .– مهاتما غاندي: تمكّن غاندي من مقاومة أحكام بريطانيا العظمى التي فرضت الضرائب، عن طريق إيمانه بالتسامح وعدم اللجوء إلى العنف، واستطاع الوصول إلى حقوقه المشروعة من خلال المقاومة السلمية.-نيلسون مانديلا: والذي كان رئيسا لدولة جنوب إفريقيا، وهو من الشخصيات التي مثّلت مفهوم الإنسانية والرحمة، فقد سجن لمدة 27 عاماً من أجل مقاومة التمييز العنصري ونشر التسامح والوئام في جنوب إفريقيا،سيظل نموذجا إنسانيا فريدا للتسامح والتعايش الإيجابي من أجل أهداف وطنية سامية.
وتأتي مهامالنخبة الثقافية لترسيخ هذه المفاهيم في أوساط المثقفين والعامة، باعتبارهم وفقا للنظريات السياسية والاجتماعية، المجموعة الأكثرة قدرة علي السيطرة علي العقول ومن ثم توجيه الرأي العام والإسهام في البناء الثقافي والتربوي والتعليمي للمجتمع بما يملكون من قوى تأثيرية كبيرة ،وبنفس القدر الذي تمتلكه النخبة الرأسمالية أو الاقتصادية من مجهودات وحلول وإسهامات مساندة لجهود الدولة في التعمير والتنمية وبناء المستقبل.
ووفقا لمؤشرات مشهودة علي أرض لمحروسة ،فهناك أشواك وعقبات وإشكاليات جمة في هذا المضمار فمن آفات طبائع النخبة في بلادنا بشقيها الثقافي والاقتصادي الانعزال عن المجتمع والتعالي ، وإدارة شؤون الحياة وفقا للمتطلبات النفعية دون النظر الاعتبارات الوطنية والاجتماعية وأحيانا الإنسانية التي تحتم الانحياز لهموم المواطنين وتطلعاتهم.
وأتصور أنه في توقيتات المحن والأزمات أن لنخب مصر أدوار شتي تتعدي حدود الذاتية والتمحور حول الذات، والانشغال بتجميع الأموال الطائلة ، وتكديس الثروات الفاحشة ، أو الصيد في الماء العكر وإشعال معارك ثقافية وعقيدية لا مبرر لها.وهو دور مجتمعي أصبح من ضرورة العصر مع هذا الكم من المتغيرات والتحديات والثقافات الوارده ومحاولات ثلة من المغرضين تشويه الهوية الوطنية والتشكيك في ثوابت الدين والعقيدة وأحيانا التنمر والسخرية من بعض العادات والتقاليد والأعراف رغم ما تحويه غالبيتها من إيجابيات ومنابع للأصالة والعزة.
واعتقد أن من مقتضيات مهام النخبة نشر ثقافة التسامح واحترام الآخر وتصحيح الأفكار المغلوطة وتفنيد الحجج المغلوطة ،علاوة علي مهمة غرس الأمل وتعريف الناس بما تم من إنجازات وأعمال.
كما أتصور أن النخبة في صورتها الطبيعية بعيدا عن الأنانية والتوقع حول الذات هي حائط صد أمام هجمات التدوير الثقافي ومحاولات تزييف الواقع.وله دور مهم نحو إثراء الاعتزاز بمحددات الهويةكاللغة والقيم الإنسانية والأخلاقية والثوابت العقيدية.إن مجتمعنا يتطلع الآن لكشف المستور وفضح المغرضين والمرجفين وبيان معنى التنوير الحقيقي ومخاطر الحداثة ومفرزات العصر الرقمي ،وأهم منابع الاستنارة والتفكير الناقد والإبداعي المستنير الذي يعلي من شأن الاعتزاز بالهوية وبالأصالة، وينطلق إلي آفاق أرحب في عصور الحداثة والتطور ولكن بتؤدة وتمهل وتعقل وتدبر، بحثا عن كل ما هو إيجابي ونافع ،وتجنبا لما هو ضار وسلبي.
ومن الومضات المشرقة في هذا السياق ،ما تم تدشينه باتحاد كتاب مصر خلال الأيام الأخيرة ،حيث تقرر تشكيل لجنة لقيم التسامح المجتمعي باتحاد كتاب مصر ، تحت رعاية د.علاء عبدالهادي رئيس نقابة اتحاد كتاب مصر أمين عام اتحاد الكتاب والأدباء العرب،.تستهدف اللجنة ترسيخ قيم التسامح ،وقبول الآخر، بكافة توجهاته ما دام في حدود القيم المتعارف عليها بالمجتمع والثابتة شرعا وقانونا ،وذلك من خلال تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية والأدبية والتي تفتح الطريق لمحاورات مستنيرة ومثمرة.ضمت اللجنة كلا من: الشاعرة فاتن متولي حسانين “رئيسا”، الأديب أشرف بدير “مقررا عاما” ود.محمد غنيم “عضوا” والشاعر إبراهيم حسان عضوا.وقد قررت اللجنة أن تكون أولى موضوعات ندواتها مواجهة بعض المعتقدات الخاطئة، والانحرافات الفكرية الفادحة، بدعوى حرية التفكير، وأن تتصدى اللجنة بالحوار الهادف، لمحاولات بعض الكيانات والأفراد للتشكيك في أصول العقيدة الراسخة، والانحراف عن ثوابت الدين في المجتمع.
وبإلارادة الجمعية نحو الأفضل والأمثل ،فلن يخفت صوت العقل والمنطق والحكمة والفطرة السوية..ولا مستحيل مع الحياة مهما تزايدت المحن والنكباتوإنا لمتطلعون!.