الإسلام دين الفطرة النقية ، والتشريع السمح ، الذي يتسم بالسهولة واليسر والبعد عن المغالاة والتشدد في كل نواحيه ومقاصده ومراميه .
واليسر والتخفيف في التكاليف من أبرز مميزات الشريعة الإسلامية ، وقد بين القرآن الكريم ذلك في كثير من آياته ، ومن ذلك قوله تعالى : (( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )) وقوله تعالى : (( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ))
ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف والتيسير فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { يسروا ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا } ومن تتبع الفقه الإسلامي يجد فيه التيسير في أبهي صوره ، وأكمل مظاهره ، فما من جانب من جوانب هذا الدين الحنيف إلا وجدنا فيه منعطفاً رحباً يلوذ به كل معذور ، ليلحق بالثواب بمن سبقوه وكان من قواعده ( إذا ضاق الأمر اتسع ) و ( المشقة تجلب التيسير ) ومن المسائل التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها مسألة الإنابة في الرمي ، والتي أبينها على النحو الآتي :
أولاً : بيان معنى الرمي :
الرمي في علم اللغة : الإلقاء تقول : أَرْمَيْتُ الحجر من يدي أي ألقيت ، ورمي الله عز وجل لفلان نصره وصنع له ومنه قوله تعالى : (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى )) وهذا كله من الرَّمْيِ لأنه إذا نصره رمى عدُوَّه ، قالوا : ولا يقال : رَمَيْتُ بها إلا إذا ألقيتها من يدك ، فالمادة تدور حول الإلقاء والطرح والقذف .
أما معناه اصطلاحاً : فهو إلقاء حصى مخصوصة في زمانٍ مخصوص ومكانٍ مخصوص وعدد مخصوص
ثانياً : حكم الرمي :
رمي الجمار من واجبات الحج ، ويجب بتركه فدية ، بأن يذبح شاةً يوزع لحمها على الفقراء والمساكين ، أو يصوم ثلاثة أيام ، أو يطعم ستة مساكين بأن يقدم لهم ما يشبعهم في غدائهم وعشائهم ، وعليه مثل ذلك إن ترك رمي يوم كامل أو ترك أكثر حصيات يوم .
وعند الأحناف إن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فعليه دم ، وإن ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثاً تصدق لكل حصاة نصف صاع إلا أن يبلغ دَمَاً .
وعندهم أيضاً أن مَن ترك رمي الجمار الثلاث ( غير جمرة العقبة يوم النحر ) فعليه صدقة ؛ لأن الكل في هذا اليوم نسك واحد ، فكان المتروك أقل إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف ، فحينئذ يلزمه الدم لوجود ترك الأكثر .
الأدلة على الرمي :
دلَّ على مشروعية الرمي السنة النبوية المشرفة ومنها ما أخرجه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنه – قال : رمي النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى ، ورمى بعد ذلك بعد الزوال ، ومنها ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمى الجمار إذا زالت الشمس ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أتى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ، ورمى بسبع ، وقال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة – صلى الله عليه وسلم –
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الرمي مشروع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه من بعده .
- حكم الإنابة في الرمي :
أجاز الفقهاء الإنابة في الرمي لغير القادر عليه لسبب مرض أو كبر سن أو صغر ، والأصل في ذلك ما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : كنا إذا حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكنا نلبي عن النساء ، ونرمي عن الصبيان وقد جاءت عبارات الفقهاء في ذلك متقاربة .
فقد جاء في الأم : ويرمي عن المريض الذي لا يستطيع الرمي ، وقد قيل : يرمى المريض في يد الذي يرمي عنه ويكبر فإن فعل فلا بأس وإن لم يفعل فلا شيء عليه ، فإن صح في أيام منى ، فرمى ما رما عنه أحببت ذلك ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، ويرمي عن الصبي الذي لا يستطيع الرمي ، وجاء في كتاب الكافي : ومَن عجز عن الرمي جاز أن يستنيب مَن يرمي عنه ، والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ، ويكبر النائب فإذا رمى عنه ثم برأ لم يلزمه إعادته ؛ لأن الواجب سقط بفعل النائب ، وإن أغمى على إنسان فرمى عنه إنسان فإن كان أذن له جاز وإلا فلا .
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى : يُرمى عن المريض والصبي اللذيْن لا يطيقان الرمي ، ويتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات لكل جمرة وعليه الهدي ، وإذا صح المريض في أيام الرمي رمى عن نفسه وعليه مع ذلك دم عند مالك ، ولا خلاف في الصبي الذي لا يقدر على الرمي أن يُرمى عنه ، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك.
وبذلك نعلم أن الفقهاء اتفقوا جميعا على جواز الإنابة في الرمي لغير القادر أو لأصحاب الأعذار غير أن المالكية لم يسقطوا عنه الدم برمي النائب عنه معللين ذلك بأن فائدة الاستنابة سقوط الإثم .
والصحيح في ذلك ما قاله جمهور الفقهاء من جواز الإنابة بالرمي عند العذر أو العجز بدون دم ؛ لأنه هو الذي يتفق مع قواعد الفقه العامة ومع التيسير الذي تمتاز به شريعة الإسلام .