ليس ثَمةَ ترادفٍ بين الكلمتين، فهذه لها أبجديتها، وتلك لها ماهيتها…
فأما الحَيَاءُ هو الإفضاء، إلى كل خصال محمودة اقتضتها المروءة الجِبليةِ أو المُكتسبة، بخلاف الخجلْ الذي يتردى إلى وبال الكسوف، المرادف لاكفهرار وقطوب وتجهم الوجه،،،
الحَيَاءُ وإن تم لا يخمط الحق قط، بل يصدح به ويعول عليه، لأن الحق أحد ثمرات الحياء، بينما الخجلْ قد يفضي بحامله إلى التضعضع، والذي هو أحد موبقات ذهاب المروءة …
وأعظم توصيف للحياء على إطلاقه، قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الحياء لا يأتي إلا بخير )…
كذلك الحَياءُ له خلتان:
حياءٌ جبلي فطري ، وحياءٌ مكتسب ::
فالحَياءُ الجبلي قد لا يقترن بعقيدة دينية، وما عثمان ذي النورين منا ببعيد، فهو الحيي في جاهليته، ولعمر الله أنه الأشد حياءً في الإسلام، فقد كانت الملائكة تستحي منه، فضلاً عن جموع الصحابة، ناهيك عن سيد الأولين محمد صلى الله عليه وسلم..
الإسلام نمّى الحَيَاءُ نماءً عظيماً، كما في الحديث ( إن لكل دين خُلقاً، وخُلق الإسلام الحَيَاء ) ..
وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبدالقيس ( إن فيك خلتين يحبهما الله، قال أشج ما هما ؟ قال النبي الحلم والحياء، فقال أشج أقديماً كانتا في أم حديثاً ؟
قال بل قديماً قال أشج الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله عز وجل )….
وفي الحديث ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحَيَاءُ شعبة من الإيمان ..
أما الحَيَاءُ المكتسب، فهو الذي تولده المواقف، ويحضرني في ذلك ما حدث ذات يوم في البصرة، عندما كان هنالك رجلاً يسمى القعنبي، مسرف في شرب النبيذ، وبينما كان يتخبط عشواء في قارعة الطريق برفقة حاشيته، إذ وجد رجلاً محاطاً بفريق من الناس، فلما دنا منه متبختراً قال له ثاوياً عطفه من أنت؟
قال أنا شعبة بن الحجاج..
قال وما شعبة، قال محدث، ثم استعجم عليه بسخرية في الثالثة وقال حدثني ..
فقال له شعبة بن الحجاج، عن فلان عن فلان عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) …
كان هذا الحديث سبباً مباشراً في هداية القعنبي، وكأنما نكأ جُرح ذنوبه وعصيانه، فما برح إلا وهو تائبٌ، يُهرول إلى عتبة الإمام مالك في المدينة ليحفظ منه الحديث، فلما عاد إلى البصرة ليسأل عن شعبة بن الحجاج، وجده قد مات، ألا وإنه قد ترك في نفسه أعظم أثر في حياته، ذلك الحديث الذي غير مجرى حياته من النقيض إلى النقيض …
ولا يعزب عني في خاتمة مقالي، الإيماء إلى المنطوق اللفظي والحركي لكلمة الحَيَاء، ففيها يُطلق اللسان مرفوع العنان، وترفع فيه نبرة الأحرف، برنين جهوري إيقاعي لا يخفت ولا يخبو، ولا ينكص على عقبيه، فيما يخفض الخجل جناح حروفه مُتَضَعضِعاً مُنكَسراً…..