نأمل أن يتمكن المتعلم منفردًا أو مشارًكا مجموعة من أن يجد حلولًا لقضايا أو مشكلات أو مهام تتطلب أداءً معرفيًا كان أم مهاريًا شريطة أن ألا يكون تعرض لذلك من ذي قبل؛ حينئذ فإننا بصدد تفكير متفرد يوصف بأنه توليديًا، وفيه يستطيع أن يوظف ما لديه من خبرات سابقة عندما يبدأ في مراحل البحث عن حلول بصورة منظمة؛ بالإضافة إلى اهتمامه بكافة المعطيات المعينة والوسائل المتاحة.
قد يبدو الأمر غير مألوف لنا في البداية ونستصعب ذلك على أبنائنا المتعلمين داخل مؤسساتنا التعليمية؛ لكنه يصبح ميسرًا إذا ما خططنا له بشكل مقصود من خلال ما نصممه من أنشطة تعليمية تتضمن مهام دقيقة تجعل المتعلم متحيرًا وتحفز تفكيره حيال التوصل لحلول غير نمطية، وبمزيد من التدريب على ذلك، وبمتابعة حثيثة من معلمه سوف يعتاد على إعمال العمليات الذهنية لديه؛ فلا يتوقف عن التفكير بمسارات متعددة ومتغيرة، يتوصل عبرها لحلول نصفها بالمبتكرة أو الإبداعية.
إن التدريب الإجرائي على توليد الفكرة تلو الفكرة من خلال برامجنا التعليمية وما تتضمنه من مقررات بواسطة مهام الأنشطة التي تستهدف مواجهة مشكلات تعليمية متنوعة؛ يؤهل المتعلم لأن يمارس صيغة من صيغ التفكير تجعله مؤهلًا لأن يُوجد مزيدًا من الحلول لمشكلات أو قضايا حياتية خارج إطار المؤسسة التعليمية، ومن ثم نصف جدوى برامجنا بالحيوية؛ حيث يمثل ذلك ربطًا وظيفيًا للخبرات التعليمية التي يكتسبها المتعلم.
وفي ضوء احتياجات سوق العمل عالية المطلب؛ حيث التحري عن فرد يمتلك مهارات عالية التفرد؛ ليجد أن الوظيفة تبحث عنه في ظل تقنية متطورة تقوم بمهام غاية في الدقة؛ لذا توجب على مؤسساتنا التعليمية أن تُعد متعلمًا يحصد خبرة توصف بالعميقة المكون؛ فيتمكن متعلمنا صاحب مهارات التفكير التوليدي من أن يمارس الاكتشاف عبر مهارات التفسير والتنبؤ والإتقان والتوسع، ومن ثم يستطيع أن يصيغ فروضًا باعتبارها تخمينات ذكية كحلول مؤقتة يستكمل مسيرتها باختبار صحتها.
وكي ننجح في تنمية مهارات التفكير التوليدي لدى المتعلم، ينبغي أن نتبنى استراتيجيات تدريسية تناسب طبيعة الموقف التعليمي وخصائص هذا المتعلم وظروف البيئة التعليمية، شريطة أن يتكامل هذا كله مع توافر أدوار المتعلم الوظيفية من خلال مراحل تلك الاستراتيجيات؛ فدوره يكمن في إتاحة الفرصة له كامله لأن يؤدي ما يوكل إليه من مهام لا تدخل لنا فيها إلا في حالة تعثره أو انحرافه عن المسار الصحيح، وهذا ما نطلق عليه بالتغذية الراجعة التي نصحح فيها الخطأ الذي يقع من المتعلم بصورة فورية، ولا ضير من التعزيز كي تزيد من الحماسة وتحفيز الأذهان.
ونتوقف عند إشكالية يتعرض لها أبنائنا المتعلمين بمؤسساتنا التعليمية؛ إذ أن مهام أنشطة التعلم التي تستهدف خبرات تعليمية عميقة ينبغي أن تتوافر لها مقومات تُسهم في حدوث التعلم العميق؛ فليس الأمر قاصرًا على حفظ واستظهار المفاهيم العلمية، بل الأهم وظيفية بنية العلم متدرجة المستوى والماهية في قضايا ومشكلات تتطلب حلولًا يعمل المتعلم على توليدها من تفكير يستند على ممارسة حقيقية، سواءً أكانت وسائل، أو أدوات، أو معينات تعليمية، أو تقنية متقدمة، أو حتى مناخ تعليمي فعال.
وفي هذا الإطار يمكننا أن نتحدث عن معلم يمتلك المقدرة على رسم سيناريو توضح تفصيلاته كافة الإجراءات التدريسية التي تتم في داخل البيئة التعليمية وتستهدف تنمية مهارات التفكير التوليدي لدى أبنائنا المتعلمين، على أن يترجم بشكل سهل وواضح في الميدان من خلال سيناريو التنفيذ القابل للملاحظة والرصد والتقويم، ورغم مقصودية المتعلم حيال تنمية هذا النمط من التفكير؛ إلا أن خبرة المتعلم يحدث لها تنمية بشكل مستدام؛ فيغير من استراتيجياته وأساليبه وطرائقه بما يمكنه من تحقيق الغايات المنشودة والتي تبدو جلية في نمط التعلم العميق لمتعلم يطور بصورة مستمرة من مهارات تفكيره.
ودعونا نلقي إطلالة مختصرة عن مهارات التفكير التوليدي التي نود الاهتمام بها في الميدان التعليمي، والتي يأتي في مقدمتها مقدرة المتعلم على أن يولد أفكارًا متتالية عند تعرضه لمثير ما قد يكون تساؤل أو قضية أو موقف مشكل يتطلب استجابة، ثم يلي ذلك مهارة تستوجب حث المتعلم على أن يستكمل توليد معلومات أو أفكار أو حلول جديدة غير تقليدية، وهنا نتطلع لمهارة أخرى تستوجب من المتعلم أن يضع تفسيرات أو مقترحات أو فرضيات مؤقتة كحلول مبدئية تتطلب التجريب للتأكد من جدواها.
وتبدأ ممارسة أخرى للمتعلم راقية؛ حيث النظرة المتأنية أو العميقة لما توافر لديه من معلومات ليخرج من خلالها باستدلالات أبعد من المتوقع، ويعبر عن هذه المهارة بالمقدرة على التنبؤ في ضوء ما يتوافر من معطيات وخبرات، ولابد من أن التقييم الذاتي كي يكتشف المتعلم بنفسه الغث من الثمين، وهذا ينمي مهاراته في رصد ما هو صواب وتحديد الخطأ، وهذا بدوره يشير إلى وعي المتعلم العلمي الذي من خلاله ارتكن على مصادر ذات موثوقية ومصداقية، لا أقوال ووجهات نظر غير منضبطة أو مجهولة المصدر.
إن المتعلم الذي يتمكن من إنتاج فكرة جديدة من تراكيب الأبنية المعرفية لديه بترابط يؤكد سلامة تفكيره ونشاط العمليات الذهنية لديه، كما يُعد رسالة طمأنه لنمط تعليمي ناجح يُسهم في بناء الفكر الرشيد الذي يقاوم شتى محاولات التشويه والتزييف لأفكار شاردة أو تحمل التزييف أو تستهدف تغييب العقول؛ فبناء الأوطان لا شك مرهون بعقول ناضجة تُحدث تغييرًا ملموسًا ونهضة تبهر القاصي والداني.. ودي ومحبتي.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر