إخواني الكرام:
إن الله عز وجل قد امْتَنَّ على أُمّةِ الإسلامِ أنْ جَعَلَ لهم مواسمَ خيرٍ تَعُمُّ فيها البركةُ، ويتجدّدُ فيها الإيمانُ، ويُضاعَفُ فيها الأجرُ والثوابُ على العملِ الصالح بما لا يكونُ في غيرِها مِن أيامِ العامِ.
ومِن تلك المواسمِ العشرُ الأُوَلُ مِن شهرِ ذِي الحجة، فنسأله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا لاغتنامها بالعملِ الصالح، وفعلِ الخيرات، إنه وليّ ذلك والقادرُ عليه.
واعلموا إخواني الكرام: أن هناك ليالي عشرًا هي أفضل الليالي في العام، وأن هناك أيامًا عشرًا هي أفضل الأيام في العام، فأما الليالي فهي العشر الأواخر من شهر رمضان، وأما الأيام فهي العشر الأول من ذي الحجة.
وكما أن العشر الأواخر من رمضان فيها ليلة القدر، فإن الأيام العشر الأول من ذي الحجة فيها يوم عرفة.
وكما أن العشر الأواخر من رمضان يتبعها عيد الفطر المبارك، فإن العشر الأول من ذي الحجة يتبعها عيد الأضحى المبارك.
اعلموا إخواني أنّ هذه الأيامَ العشرَ المباركاتِ يجتمِعُ فيها مِنَ العبادات ما لا يجتمعُ في غيرها، ففيها الصلاةُ والصيام والحجُّ، والصدقة، والأضاحي.
فمَن عَجَزَ عنِ الحجّ في كلَّ عامٍ قَدَرَ في العشرِ على عَمَلٍ يَعْمَلُهُ في بيتِهِ يكونُ أفضلَ مِنَ الجهاد.
ولهذا فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حثَّ الأمةَ على الاجتهاد فيها ما استطاعوا.
فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وغيره: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ».
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»
وفي رواية في سنن الدارمي -وحسنها الألباني- قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى».
قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». وإسناده صحيح
وفي هذه الأيام يوم عرفة، وهو اليومُ التاسِعُ منها، وقد عدَّه بعض أهل العلم أفضل يوم في العام على الإطلاق، حيث ورد في فضله جملةٌ من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه، إذ قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ».
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أيضا: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
فاحرصوا إخواني على صيامه، محتسبين ذلك الأجر والفضل العظيم.
وفيها يوم النحر وهو اليوم العاشر منها، يوم عيد الأضحى المبارك، حيث قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وصححه الألباني: «إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ».
إخواني الكرام:
أذكر بعض الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركات، لعل الله تعالى يتقبلها منا ومنكم برحمته وفضله
العمل الأول: هو الإكثار من ذكر الله عز وجل
فقد مدح الله أولي الألباب في كتابه الكريم وذكر عز وجل في صفاتهم أنهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}،
وروى الترمذي في سننه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى». وهو حديث صحيح
واعلموا (عباد الله) أن ذكر الله تعالى يتأكد استحبابُه في هذه الأيام العشر، لقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).
والأيام المعلومات هي العشر الأُوَل من ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق. وهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر.
ومن أهم الأذكار كثرة الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم
-قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
-وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَحَطَّ عنه عَشْرَ خَطيئاتٍ». رواه البخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح.
العمل الثاني: الإكثار من تلاوة القرآن.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ» (مسلم)
- وعن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» (الترمذي وحسنه).
العمل الثالث:
المحافظة على الصلاة في جماعة والمكث في المسجد بعض الوقت
فقد روى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا».
وروى الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ [يعني صلاة الفجر] ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ». وهو حديث حسن.
والمحافظة على جميع السنن القبلية والبعدية في الصلوات المفروضة.
العمل الرابع وهو الصيام،
للحديث الذي تقدم معنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذِه العَشْر». والصيام من الأعمال الصالحة.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا فيما رواه البخاري ومسلم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
هذا ويتأكد صيام يوم عرفة خاصة (عباد الله)، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، فإنه يكفر سنتين بفضل من الله (عز وجل)، فلا يفرطن أحدنا في صيامه.
العمل الخامس في هذه الأيام
هو التصدق على القريب المحتاج والجار المحتاج ولو بالقليل:
-قال الله تعالى: (مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً).
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» (متفق عليه)
- وعن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» أَوْ قَالَ: «حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ». أحمد وابن حبان وصححه الألباني.
وبعد (عباد الله):
ألا فاستعينوا بالله على فِعْلِ الطاعة، وسَلُوه التوفيقَ والإعانة، احرِصوا على صلاة الجماعة، وحافظوا على السُّنن الرواتب وغيرها.
ولا تحرموا أنفسكم من المُكْثَ في المساجد، وأحْيُوا ليلَكم ولو بركعتين.
واقرأوا القرآن، وعطّروا ألسنتَكم بِذِكْرِ الرحمن ..
وجَدِّدُوا نيّاتِكم، وأخْلِصُوا الطاعةَ للهِ ربِّكم، وارجو منه وحدَه الثوابَ على أعمالِكم ..
بِرُّوا آباءَكم، وصِلُوا أرحامَكم، وأصلِحُوا ذاتَ بينِكم، واعْفُوا عمَّن أساءَ لكم ..
أسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكِره وشكره وحسن عبادته.
اللهم آمين