د. أيمن حماد
في تجسيد شاعري فني بارع تصور رواية «أشجار قليلة عند المنحنى» (2000م) للراحلة نعمات البحيري (1953-2008م)، اغتراب بطلتها (الراوية) أشجان وخيبة أملها، بعد سفرها مع زوجها (العراقي) عائد وتضحيتها بأهلها وراحتها وسلامتها في مصر، والموافقة على الزواج به، والسفر إلى بلد لم تضع الحرب أوزارها فيه بعد. علها يتحقق حلمها بالهدوء والاستقرار عقب انتهاء تلك الحرب.
وتوحي عتبة العنوان (أشجار قليلة عند المنحنى) بما أصاب البطلة أشجان مصري من خيبة أمل وتحول حياتها هناك إلى صحراء قاحلة وشعورها الغائر بالأسى والحزن، وكأنها نبت شيطاني أوجد في تلك الصحراء. لقد تحول حلمها بالفردوس والجنة والأشجار الكثيرة الجميلة ذات الخضرة اليانعة هناك إلى سراب لا حدود له، فلم تجد سوى أشجار قليلة عارية من أوراقها.
ولعل تساقط أوراق هذه الأشجار القليلة يرمز إلى سقوط البطلة في آتون جحيم الجدب والقهر والاغتراب، الذي أوقعها فيه زوج مخادع كاذب قامع، أوهمها بتحقق حلمها حال انتهاء تلك الحرب التي لم تتوقف. وتعبر الساردة/ البطلة عن ذلك بقولها: «تبدل الحلم بأوهام وأحلام تتحقق بعد انتهاء الحرب، حلم بجنة وفردوس وأيك متشابك وأشجار، وليس عند المنحنى سوى أشجار عارية من أوراقها.. وها أنا ما زلت أمشي في طريقي الحار نحو المجهول»().
١- اغتراب الشخصية
تكشف الساردة عن صدمتها في هذا الزوج المخادع والتي قصمت ظهر سعادتها، حيث ضرب حولها سياجًا من المحاذير والممنوعات فأصبحت تعيش وكأنها في سجن وظلام دائمين، فقيدت بذلك حريتها ووئدت أحلامها التي وعدها زوجها عائد بتحققهما قبل الزواج. «غابة من المحاذير والممنوعات أوقعني فيها منذ دخلت المدينة، حتى قاموس الكلمات العامية الذي جئت به من بلدي جعله عائد يحفل بكثير من المحاذير، ربما حملت نفس الكلمة معنى مغايرًا وقبيحًا عندهم»().
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. بل وصل قمع الزوج إلى مرحلة لا يمكنها احتمالها، حيث فرض عليها قيودًا جعلتها حبيسة الزوجية، فحرمها من السير في شوارع المدينة والتعرف إلى أهلها. تلك المدينة التي تتعرض يوميًا لضربات صواريخ الأعداء. وحتى حينما لاحت فرصة الخروج إلى النادي – حسب رغبته – لم تزدد إلا قلقًا وتوترًا وضجرًا وكآبة، فكل حركاتها وسكناتها محكومة بحركة عائد وسكناته. لقد أصبح النادي بمثابة المعتقل المفتوح.
«داخل النادي – النفق – أنزل من السيارة، ومن داخله أيضًا أصعد إليها. صرت أشعر أنه يتلقفني مثل كرة نار، ويسكبني مثل كوب ماء، ومشاعر كثيرة وهواجس ووساوس مفعمة بكثير من القلق والتوتر والألم والضجر تزيد من كآبة الليلة. رغبات كثيرة تنتابني، وتطالبني بالخروج بعيدًا، فربما تأخذني قدماي إلى آخر الدنيا»().
إن هذه المحاذير والممنوعات جعلت البطلة تشعر بالعزلة الضاربة حولها عن البشر والشجر والحجر، فأضيفت إلى عزلتها المادية عزلة روحية ونفسية عميقة الغور تكاد تفتك بها، مثل صواريخ الأعداء التي تنهال على المدينة بين كل لحظة وأخرى.
وتصور الساردة أجواء الخوف والمراقبة والمطاردة التي سادت المدينة كلها جراء تسلط النظام الحاكم هناك ورجاله. فعائد لا يفتأ يكرر أمام سمعها، دوما، أن كل الرجال في المدينة ما هم إلا مخابرات جواسيس للنظام الحاكم القامع الذي رأت صوره منتشرة في كل الشوارع والميادين وكأنه إله يخشى الكل أن تحل عليهم لعنته في أي لحظة «ومنذ البداية أخافني من الرجال، فكلهم إما صيادو نساء وإما عسس ومخابرات»(). وتلك أجواء القمع البوليسي الذي تنعدم فيه الحرية، وتسلب الإرادة، ولقد تعرض زوجها لهذا القمع، وظل يعيش في أجوائه الخانقة المخيفة فكان أن ضرب حولها الأسلاك الشائكة حتى لا تقع في المحظور، حيث «كل النهايات مفجعة وكل العواقب وخيمة إلى حد الموت»().
إن تلك الأجواء من القمع والخوف والمطاردة، التي أصابت الزوج، انتقلت عدواها إلى أشجان فتعمق اغترابها عن رجال المدينة، بمن فيهم عائد الزوج المقموع من السلطة والمطارد منها والقامع لزوجته في الوقت نفسه. وهذه التراتبية القمعية الفوقية من سمات المجتمعات الذكورية الأبوية الهيراركية «الآن صرت أعيش الغربة حتى وهو إلى جواري، تمتد المسافات بيننا، صحراء تمتلئ بعقارب وثعابين وحيات وأسلاك شائكة»().
وما حدث مع رجال المدينة حدث كذلك مع نسائها، حيث سُدت أمامها نوافذ التعرف عليهن، وتبادل أحاديث الود والتزاور، مما جعلها عرضة للشك والسخرية من جانب أولئك النسوة، فتظل ألسنتهن تلوكها باستمرار، وكأنها تلك الخرساء التي فقدت القدرة على الكلام والتحاور في هذا الوادي السحيق الذي ألقيت في غياهبه تقول: «أظل وحدي بين النوافذ والشرفات، وتتابعني الجارات اللائي يملأن العيون والأفواه بالأسئلة عن المصرية الوافدة التي لا تتحدث إلى أحد، حتى يعود زوجها بعينين مفعمتين بالضجر والأسرار»().
وتقارن الساردة/ البطلة بين قمع أبيها لها ولأخوتها في مصر، ذلك الأب الذي تمني أن تولد ذكرًا وليست أنثى، وقمع زوجها عائد، فأبوها كان صريحًا وواضحًا في ممارساته القمعية تجاهها، أما الزوج فارتدي قناع الكذب والغش والخداع، الذي من خلاله مارس قمعه وإرهابه لها. تقول: «أبي كان صريحًا في ممارسات الحظر والمنع والقمع والصرامة، على العكس تمامًا من ذلك الذي يرفع شعارات العدل والحرية وحقوق الإنسان ويمارس معي أعتى سبل القمع والتخويف والإرهاب، وهو يوقن أنه ليس عليّ إلا الإذعان له فأنا في مدينته، وليس لي من أصدقاء أو أصحاب وليس لي من عمل أبدد به طاقة هائلة من الملل والفراغ وكمًا هائلاً من الأسئلة»().
لقد أيقنت البطلة أن القمع والهيمنة الذكورية آفة تصيب الإنسان – وخاصة المرأة – في كل المجتمعات الاستبدادية، التي يقوم نمط العلاقات فيها على الخضوع والاستسلام والتبعية، سواء كان ذلك للأب أو الأخ أو الزوج أو السلطة، فكان شعورها بانعدام الأمان والثقة في من أحبت وانزوائها ثم اغترابها. وتلك نتيجة هذه الهيمنة التي يؤكدها بورديو بقوله: «إن نتيجة الهيمنة الذكورية التي تشكل من النساء موضوعات رمزية، هي وضعهن في حال دائمة من عدم الأمان الجسدي، أو بالأحرى في حال من التبعية الرمزية: إنهن موجودات بواسطة، ومن أجل نظرة الآخرين، أي بمثابة موضوعات مضيافة، جذابة وجاهزة، وننتظر منهن أن يكنّ أنثويات، أي مبتسمات لطيفات مجاملات خاضعات محتشمات متحفظات وحتى منزويات»().
إن هذه التبعية المكونة لكيان أبناء هذه البلدة التي سافرت إليها البطلة، لتعيش مع الزوج المغترب هو ورفاقه في بلدهم هي ما رفضتها أشجان مصري – ولاسمها دلالة في هذا السياق- في النهاية، ومن ثم فقد هداها تفكيرها، بعد أن وصلت إلى طريق حياة زوجية مسدود ملبد بغيوم الفشل والإحباط والاغتراب، إلى العودة إلى بلدها مصر تملؤها مرارة ذلك الفشل الكبير. تقول: «تركته نائمًا بعد مهرجان الخمر وأهازيج العرق وما صاحبهما من حشد هلاوسه البصرية والسمعية، وفوبيا السيد الرئيس التي تفاقمت في الفترة الأخيرة، فأطاحت بآخر رغبة لي في البقاء بين أسوار هذه المدينة.. تملؤني مرارة العودة بفشل عظيم، يأخذ عظمته من عظمة من كان من حب وما آلت إليه الأحوال. صار الحب مثل كائنات منقرضة. وها أنا أعود بقلب مطوي على بعض الثقوب وكثير من المرارة ولفيف من أشباح الحزن وتهاويم الذكرى الحمقاء».
٢- الاغتراب المكاني:
(أ) المدينة
كانت مدينة «بغداد» العراقية مبعث اغتراب أشجان أيضًا؛ فبعد زواجها من «عائد» العراقي وسفرها للإقامة معه في بغداد لم تجد في تلك المدينة إلا الحرب والخراب والحزن والخوف الدائم جراء الصواريخ التي تطلق عليها يوميًا من جانب الأعداء، ومن ثم كان قرارها، وبعد أن ذاقت عذاب الزواج من عائد ورأت ويلات الحرب «الفرار من مدينة الحزن والحر والحرب وأشياء كثيرة تبدأ بحرف الحاء»().
وهي حينما ترى تلك المدينة بناسها وبيوتها وشوارعها يصيبها الضيق والملل والكآبة، ولقد تحولت حياتها بعد الإقامة بها إلى نوع من الآلية القاتلة، إنها مدينة الأشباح والموتى والعزلة بين البشر. تقول: «مللت رؤية المدينة والبيوت والشوارع والبشر، وكل شيء عبر زجاج نوافذ البيت، وزجاج نوافذ النادي وزجاج نافذة السيارة. صار لي ثأر مع الزجاج وكل الخطوات كأنها محسوبة، تلك التي أخطوها على أرض هذه المدينة»().
ولقد شعرت أشجان بأنها ألقي بها بين جدران سجن لا نهاية له، هو سجن المدينة، فالمدينة هنا ترمز للاختناق والخوف والرعب الدائم من السلطة القامعة، التي تقرر كل شيء يتعلق بمصير الناس، وتحدد لهم الأماكن التي يذهبون إليها أو يقطنون بها أو التي تمنعهم من ارتيادها، وكل ذلك أصابها بالاغتراب والعذاب المقيم المقرون بالوحدة القاتلة تقول: «ألفيت نفسي وحدي في الشارع، وحدي في المدينة، وحدي في الحياة، وسرعان ما تحولت الدنيا إلى كادر سينمائي كبير وأنا وحدي بداخله، ودرجات متعاظمة من مشاعر اليتم، والفقد، والخوف، والرعب تنغرز في نفسي مثل أسنة من لهب»().
(ب) الصحراء
تعد الصحراء المترامية الأطراف في بغداد العراقية مكانًا موحشًا قاهرًا بما ترمز إليه بالجدب والقهر لأشجان المصرية التي تركت وطنها مصر للإقامة مع زوجها العراقي عائد في بلده الذي يعج بالحرب والقهر السياسي والاجتماعي. وتصور ذلك بقولها بعد هروبها من هذا البلد الصحراوي المجدب في كل شيء: «ما أبشع الصحراء الممتدة في استرخاء البلادة والكسل والجدب والفقر مضافًا إليها الليل. أي معنى نتيجة دخول الليل في الصحراء»().
ولقد أورثتها هذه الصحراء وجدب المشاعر الإنسانية وقمع السلطات وديكتاتورية السيد الرئيس والضياع، الذي يعيشه الناس المقهورون من أبناء تلك البلدة، جدبًا روحيًا قاتلاً «كان ينقضي توخي الحذر الشديد في التعامل مع صحراء الروح»()، وبعد خيبة أملها في زيجتها وفشلها في العيش هناك قررت الهروب من «جحيم الحزن والحر والحرب وأشياء كثيرة تبدأ بحرف الحاء»(). وتقول: «حين تزوجت عائد كنت أرغب في جغرافيا وتاريخ آخرين لبشر هذه المساحة الممتدة بامتداد الحلم. يخفف من وطأة الصحراء هذا الميل الحاد للطائرة إلى الجانب الأيمن حين أنزلت الستار»().
(ج) البيت
وكان بيت الزوجية في الرواية مكانًا موحشًا باعثًا على الاغتراب والخوف الدائم لبطلتها أشجان، التي تزوجت من العراقي عائد حسون، وأقامت معه في ذلك البيت في مدينة الحرب والدمار والهلاك، بغداد، في تلك الفترة، تقول: «كنت أرتعد وأنا أستمع لنشرة الأخبار وأصوات الجيران لأعرف في أي منطقة سقط الصاروخ.. بعدها أدرك أن أشباح الدخان وشياطين اللهب لا تبتعد كثيرًا عن بيتنا»(). ولقد خيم الحزن على حياة أشجان الزوجية، وساد الصمت أجواء بيتها، نتيجة قمع الزوج لها وإصراره على وضعها في القالب الذي يريد فكرهت البيت وكل مكان في تلك المدينة الخربة من مشاعر الدفء والطمأنينة، وتعبر عن ذلك قائلة: «ما زلت أفتقد القدرة على التكيف مع المكان والزمان. وما زال عائد يجرني من منابت شعري إلى أسباب الضجر والملل وبعض الحزن، وكأنه آلى على نفسه ألا أهنأ ولو قليلاً»().
ولم يكن بيتها مكانًا اغترابيًا فحسب، بل كانت بيوت المدينة كلها باعثة على الحزن والكآبة والاغتراب، ويبدو الملل والفراغ والحزن على وجوه ساكنيها، تقول: «والحزن لافتات سوداء معلقة على واجهات البيوت، والبيوت رطبة وحارة وموحشة»()، وكانت شقة خطيبها المصري، الذي وصفته بـ«الدرفيل» لبدانته المفرطة، ولم تتزوجه وفضلت عليه عائد العراقي «تشبه أحواش القبور. واسعة وباردة وذات سقف يتسع لطابقين آخرين، وتسكنها الأشباح والخفافيش»().
(د) الغرفة والزنزانة
كما كانت غرفة الاحتجاز أو الزنزانة مكانًا اغترابيًا موحشًا لبطلتها «أشجان» وزوجها العراقي «عائد»، الذي قبض عليه بصحبتها بتهمة الانتماء لحزب سياسي معارض للنظام الحاكم. لقد كانت هذه الزنزانة بمثابة قبر الموتى بالنسبة لهما. وتصور الساردة ذلك بقولها «بلاط الغرفة والاتساع المهول وارتفاع السقف ورمادية الجدران تصر على أننا في مشرحة لجثث صالة»().
وبعد طول انتظار وتحقيق ممل معها من جانب أحد الضباط «خرجت بصحبة الحارس الضخم الجهم الذي يرتدي الزي العسكري ويحمل الرشاش وتصدر عن حذائه أصوات كالأنات» تم وضعها في زنزانة أخرى أكثر عتامة بعيدة عن زوجها عائد فتضاعف حزنها. تقول: «كان باب آخر غير الذي دخلت منه، تخفيه ستائر داكنة. كان الباب مثل أبواب كثيرة تفضي إلى الفراغ، إلا أن هذا أخذني إلى داخل ممر ضيق مثل خرطوم حلزوني تحدوه العتمة من كل جانب. كنت أتساند بجداره المقوس تفاديًا للسقوط على أرضه الزلقة، ورغم هذا فرحت لأن الممر الحلزوني امتداد للغرفة التي دخلها عائد. قلت في نفسي كي أطمئنها: حتمًا وفي النهاية سوف ألقى «عائد» »(). لكنها لم تلتق عائدًا بل ظلت تمشي داخل ممر تلك الزنزانة وحيدة تسلمها العتمة إلى أخرى أشد منها «وبعد وقت وأنا في متاهة الضيق والصدى والدوار والعتمة ارتطمت بجدار أصم، ورحت أفتش عن فتحة في الجدار وأنادي «عائد» ولا أحد يرد، وأنادي ولا أحد، وأصرخ ولا أحد»().
(ه) المقهى
وكانت المقاهي و«الكافيتريات» وكذلك دور السينما أماكن اغترابية لأشجان مصري، ففي مدينة الحرب (بغداد)، حيث خرجت بصحبة زوجها العراقي «عائد» شعرت بالملل والضجر والضيق الشديد، حينما مرت بشوارع وسط المدينة وشاهدت أبنيتها ومحالها ومقاهيها، تقول: «المحال الكبرى ودور السينما والكافيتريات ووجوه المارة والباعة الجائلون والثابتون على النواحي وفي مفترق الطرق الضيقة والحارات. مللت رؤية كل هذا من نافذة السيارة»()، وحينما جلست في إحدى الكافيتريات بصحبة كريم زميل زوجها عائد مطالبة إياه التوسط لدى عائد كي يوافق على سفرها إلى القاهرة، شعرت وكأنها في سجن، وأحاطها الاغتراب والتيه من كل جانب، فتركت المكان على الفور «لم أكمل عصير البرتقال ونهضت تحت زعم ضرورة عودتي إلى البيت.. بدوت للرجل صادقة تمامًا حتى أنني صدقت نفسي، أنني حقًا نهضت لأضع نفسي في سيارة تاكسي وأعطي سائقها العنوان، وحين أصل إلى البيت سوف أمارس كافة طقوسي اليومية التي أعلنت تمردي عليها اليوم»().
٣- الاغتراب الزماني
يتجلى الاغتراب الزماني في الرواية في شعور بطلتها «أشجان مصري» بثقل الزمن طوال مدة إقامتها بالعراق، بلد زوجها عابد، بعد سفرها من مصر إلى ذلك البلد الذي يعج بالحرب والقتل والقهر، فهناك «الوقت يطول ويمتد ويصير أكثر حدة من سيخ صدئ يخترق الدماغ والعقل والروح»(). إن الزمن لديها كالوحش الكاسر الذي تسبب في تدمير أحلامها الجميلة على صخرته، فدمر أيضًا عقلها وروحها وما تبقى لها من ذكريات الحب والطفولة البريئة. «كنت أرغب في قتل الوقت والقلق فرحت أكتب اسمي واسمه مرة أخرى متعانقين ومتحاضنين»()، لكن ذلك لم يجد شيئًا، جراء مرارة التجربة في ذلك البلد الذي صدمت فيه من الحبيب الزوج وكذلك الخوف والرعب والقهر الدائم، بسبب الحرب التي لم تضع أوزارها، والتي قلت أحلامها وعمرها. «هاهي ذي الحرب وليس سواها تطوي الأيام والشهور والسنوات والأحلام في بساطة شريرة»().
لقد زادها الزمن هناك خيبة ومرارة من هول ما رأت، سواء من الحرب أو تصرفات البشر ونظرة الاحتقار والازدراء، وخاصة من النساء هناك «كنت أشعر بخيبات الزمن تفرز مرارتها في حلقي، وأنا لا أجد كلمات كافية للعزاء والسلوى، والنساء لابسات السواد يواجهن نظراتي بنظرات إلى الأرض»(). وجراء هذه الغربة الشاملة التي لفتها أضحت تعيش خارج زمنها في صمت وفراغ قاتل في تلك المدينة التي لم تجد فيها إلا الحزن والحر والحرب. «والصمت مثل غلاف هوائي لزج والسماء كتل دخانية واطئة، والفراغ بين جسدينا سد منيع، ونظرات عائد مثل علامات استفهام فيشدني إلى جواره ونجلس معًا ننتظر الصاروخ»().
كما تعاني أشجان بطلة رواية «أشجار قليلة عند المنحنى» اغترابًا زمانيًا ممضًا تمثل في هروبها من حاضر الغربة والعذاب والقمع والوحدة، بعدما سافرت إلى العراق بصحبة زوجها العراقي عائد حسون، فكانت تهرب من هذا الحاضر عن طريق الحلم بمستقبل سعيد هانئ ينقذها من عذاب حاضرها القاتل، وكذلك عن طريق الحنين إلى ماضيها، ماضي الطفولة والأيام الجميلة والأماكن الأثيرة لديها في مصر. تقول: «قررت أن أظل أحلم هكذا إلى نهاية الطريق وربما إلى نهاية العالم. سأبدأ بحلم عادي.. أن أضل الطريق يوما، وأدق باب امرأة طيبة لا تلبس السواد حتى لو كانت تسكن مقبرة أو عشة من صفيح، سأدعها تعد لي طعامًا، وتمنحني وقتًا لأغسل وجهي وشعري، وأنفض ثيابي من غبار الطريق وأوراق الشجر اليابسة التي سقطت على شعري وثيابي، ثم أنام في حضن البيت وابتسامة المرأة. حين أصحو ألعب مع أطفال يعرفون الابتسام، متمنية ألا يحين أوان الرحيل، أو يجول في خاطري أن أضل الطريق إلى امرأة أخرى، ليس على جدار بيتها لافتة من السواد عليها اسم زوجها أو ابنها أو أخيها الشهيد، فأعيش بين جدران بيتها أيامًا»(). فهنا نجد الهروب من الحاضر إلى المستقبل الجميل الذي يسوده الشعور بالأمان والطمأنينة، حيث تحلم البطلة بأن تضل طريق الشقاء والتعاسة والخوف متمنية الوصول إلى المستقبل (بيت امرأة طيبة)، وتعيش بين أطفال تلك المرأة وتلعب معهم في سلام بعيدًا عن أجواء الحرب والحزن والحر التي عاشتها بصحبة زوجها في بلده المغلف بالحرب والقهر.
ونلمح كذلك حنينها إلى ماضيها الجميل في القاهرة، حيث شوارعها الشهيرة القريبة إلى قلبها وحركة الناس بها المليئة بالحيوية والنشاط والأمل. «فشوارع وسط المدينة قريبة جدًا إلى قلبي. أشعر بالحنين يتقافز في نفسي كلما مررت وعائد بها ونحن في طريقنا إلى البيت. تذكرني بشارع سليمان باشا وعدلي وقصر النيل وشامبليون، ربما نفس النسق والبواكي والعمارات القديمة وعوامل الزمن وشكل البوتيكات وحركة الناس هنا وهناك»().
وتكره أشجان الليل الذي تهاجمها فيه الكوابيس المخيفة بعد أن سافرت إلى مدينة بغداد بصحبة زوجها العراقي عائد. تقول: «صرت أكره الليل من أجل كوابيس ما قبل النوم»()، كما تعبر عن خوفها من الليل أيضًا بقولها: «ودائمًا أرى الليل مكانًا وزمانًا للخطر، ممنوع الاقتراب إلا وفق حسابات بهجته الخاصة»()، وفي الليل تطمس كل الوجوه، فلا تبين ملامحها، كما عبرت عن ذلك لوحات صديقتها ميسون التي «تتخللها جميعًا امرأة واحدة تشبه ميسون على نحو ما أو تشبهني، لكنه الليل أو الظلام أو الوحدة التي لا تدع فرصة لملامح امرأة أن تبين تمامًا»()، وليلها مع زوجها عائد مؤلم وموجع، حتى وهي في أحضانه «وفي الليل يصير فعل الحب موضوعًا للوعة والألم والبكاء والاعتراف والتعبد والتكفير عن كل أشكال العنف التي مارسها نهارًا»().
وفي الليل الأليم الصمت يداهمها حنين إلى مهاتفة أمها لتخفف عنها ثقله، ولكن من دون جدوى. «في ساعات الليل المغرق في صمه يداهمني الحنين إلى صوت أمي فأمسك سماعة التليفون وأظل أحاول مع القاهرة، فيخبرني موظف السنترال والكلمة تملأ فمه بأن خط القاهرة عاطل.. عاطل.. وفي أحسن الأحوال يأتيني صوت جارتنا في القاهرة شاحبًا واهنًا»().
تقنيات السرد
(أ) الحلم
تعبر أشجان عن اغترابها عن طريق هذا الحلم الذي تهرب فيه من حاضرها المرير، بعد زواجها من العراقي عائد حسون وسفرها للإقامة معه في بلده الذي تسوده أجواء الحرب والخراب والدمار، فكان الحلم هروبًا من ذلك الواقع الصادم إلى المستقبل الجميل الذي يسوده الشعور بالأمان والاطمئنان، بعيدًا عن أجواء الحرب والتطاحن والنميمة. تقول: «سأبدأ بحلم عادي.. أن أضل الطريق يومًا، وأدق باب امرأة طيبة لا تلبس السواد حتى لو كانت تسكن مقبرة أو عشة من صفيح، سأدعها تعد لي طعامًا، وتمنحني وقتًا لأغسل وجهي وشعري، وأنفض ثيابي من غبار الطريق وأوراق الشجر اليابسة التي سقطت على شعري وثيابي، ثم أنام في حضن البيت وابتسامة المرأة. حين أصحو، ألعب مع أطفال يعرفون الابتسام، متمنية ألا يحين أوان الرحيل، أو يجول في خاطري أن أضل الطريق إلى امرأة أخرى، ليس على جدار بيتها لافتة من السواد مكتوب عليها اسم زوجها أو ابنها أو أخيها الشهيد فأعيش بين جدران بيتها أيامًا»().
ويتجلى اغترابها أيضًا في ذلك الحلم الذي تروي فيه خيبة أملها بعد إقامتها، بصحبة زوجها عائد، في العراق، حيث ظنت أنها ستنزل أرض الأحلام الجميلة والمشاعر الرومانسية الدافئة، لكنها اصطدمت بأجواء الكآبة والحزن المقيم تقول: «ذات يوم حلمت أنني أرتدي فستان الفرح الأبيض وأن عائد جاء للقائي في المطار، وحين ركبت إلى جواره في سيارته البيضاء الفارهة، توهج وجهه بالابتسام والفرح، ثم أدار الكاسيت بموسيقى ناعمة، وأحكم غلق النوافذ والأبواب وجعل التكييف باردًا ينشر هواء رطبًا، وحين سألته عن سر إغلاقه للموسيقى الناعمة، أخبرني أنه ينتظر موسيقى واحدة هي صوت الطريق وأنفاسنا»().
(ب)المونولوج والمناجاة
ويلعب المونولوج ومناجاة النفس دورًا كبيرًا في التعبير عن اغتراب البطلة، فتقول معبرة عن حجم الخسارة والفشل اللذين منيت بهما في الغربة بعد زواجها وسفرها بصحبة زوجها العراقي عائد حسون، ومللها من الحياة الزوجية الرتيبة، والمليئة بالرعب والخوف، حيث تناجي نفسها: «انطفئي أيتها البلهاء التي تقترب من ثلاثينها أيتها المغتربة من أجل الحب.. أي حب؟ كان هنا القليل منه ونفد، تبدل الحب بأوهام وأحلام تتحقق بعد انتهاء الحرب، حلم بجنة وفردوس وأيك متشابك وأشجار، وليس عند المنحنى سوى أشجار عارية من أوراقها.. وها أنا مازلت أمشي في طريقي الحار نحو المجهول، نحو حديقة النادي، وصوت عائد وسط الرجال يضحك في صخب، وعيناه تلمعان برغبة البحث تحت جلدي، أين أنت يا أشجان وماذا تفعلين»().
وبأسلوب المونولوج الداخلي تتساءل في حيرة عن ذاتها الضائعة، وسط هذا الحشد من البشر، ومن بينهم زوجها، وكأنها لا تعرفهم جميعًا، تقول: «من أنا؟ ومن ذلك الرجل الذي يقبع أمامي الآن مثل أسد مهزوم؟ ومن هؤلاء البشر الذين أراهم عبر الحياة مثل كائنات كومبارسية؟ ومن أولئك الذين يلعبون كل الأدوار ولا أراهم، ومن أصدقائي ومن هؤلاء الذين يكثر في الحديث عن ضرورة أخذ حذري منهم؟»().
(ج) الحوار
كان الحوار كاشفًا أيضًا عن غربة «أشجان» بطلة روية «أشجار قليلة عند المنحنى»، تلك المصرية التي عانت الاغتراب والقهر والخوف الدائم بعد زواجها من العراقي عائد حسون وسفرها للإقامة معه في «العراق» التي لم تضع الحرب أوزارها فيه. يتضح ذلك في حوارها مع الضابط الذي يحقق معها بعد القبض عليها هي وزوجها عائد بتهمة ممارسة السياسة.
هل زرت مصر من قبل؟
أجابني بالنفي وإذا بي أجدني أقول له:
لو زرت مصر لن تعبس هكذا.. الناس يضحكون لكثير من المحن، بعضهم يعيش في القبور، وبعضهم يعيش في الجحور، والهواء نقي وبارد، وشوارعنا «متونسة» بناسها وليس لدينا صور كالتي فوق رأسك().
فهذا الحوار يدل على اغتراب البطلة وحنينها إلى العودة إلى مصر حيث الأمن والاطمئنان، رغم تمسكها من قبل بالسفر بصحبة «عائد» زوجها إلى العراق، اعتقادًا منها أن الحب سيكون عونًا لها للتخلص من ألم الاغتراب، وذلك في هذا الحوار بينها وبين أبيها الذي كان رافضًا تلك الزيجة.
اطمئن .. «عائد» أفقر منا
ثم طالتني سهام أسئلته، مسنونة بحد القلق
والعزلة؟ والحرب؟
رددت وأنا لا أرغب في تذكيره بفشل خطبتي السابقة
دعني أختار هذه المرة.. ربما كانت عيناه في الغربة وطنًا .. وربما كان الحب في الحرب بردًا وسلامًا().
لقد حاولت «أشجان» الهروب من تجربة خطبتها الفاشلة في مصر من شخص لا تحبه، لتقع في فشل آخر، هو فشل زواجها ممن أحبت، لكن هذا الحب لم يصمد أمام تقلب العلاقات الإنسانية، جراء القهر والعنف والخوف والحرب التي أصابت حبهما في مقتل، فكان اغترابها المقيم وهروبها للعودة إلى مصر.
الهوامش
() نعمات البحيري: أشجار قليلة عند المنحنى، روايات الهلال، ديسمبر 2000، ص16.
(٢) الرواية: ص29.
(٣) الرواية: ص14.
(٤) الرواية: ص15.
(٥) السابق: ص15.
(٦) الرواية: ص77.
(٧) الرواية: ص128.
(٨) الرواية: ص32.
(٩) بيار بورديو: الهيمنة الذكورية، ترجمة د. سلمان قعفراني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص103.
(١٠) الرواية: ص6.
(١١) الرواية: ص7.
(١٢) الرواية: ص28.
(١٣) الرواية: ص39.
(١٤) الرواية: ص10.
(١٥) الرواية: ص10.
(١٦) الرواية: ص7.
(١٧) السابق: ص10.
(١٨) الرواية: ص64.
(١٩) الرواية: ص36.
(٢٠) الرواية: ص125.
(٢١) الرواية: ص143.
(٢٢) الرواية: ص125.
(٢٣) الرواية: ص165.
(٢٤) الرواية: ص166.
(٢٥) الرواية: ص39.
(٢٦) الرواية: ص45.
(٢٧) الرواية: ص125.
(٢٨) الرواية: ص125.
(٢٩) الرواية: ص99.
(٣٠) السابق: ص93.
(٣١) الرواية: ص36.
(٣٢) السابق: ص97.
(٣٣) الرواية: ص14، 15.
(٣٤) السابق: ص17.
(٣٥) نفسه: ص41.
(٣٦) الرواية: ص38.
(٣٧) السابق: ص87.
(٣٨) نفسه: ص22.
(٣٩) نفسه: ص54.
(٤٠) نفسه: ص10.
(٤١) نفسه: ص135.
(٤٢) الرواية: ص15.
(٤٣) السابق: ص135.
(٤٤) الرواية: ص16، 17.