التقيت بها أول مرة في الشارع أمام المكان الذي أعمل فيه،كانت تقف منكوشة الشعر مع طفل يصغرها بعامين تقريبا هي كانت في الثامنة من طفولتها المشردة ،مررت فاستوقفتني باسمة وقالت :
(اليوم إلا تنطيني الف ماخليج تروحين)
أحببت شقاوتها فاحتضنتها ،قلت :
(هاي الفين ابدال الألف مدام انتي هيج حلوة)
وهكذا ارتبطنا أنا و (ه) بعلاقة دامت سنوات ،تنتظرني صباحا او ظهرا أخرج امد لها ال (الف) احتضنها امزح معها واذهب، تطورت العلاقة ،وفي يوم كانت تقف تحت حرارة شمس الظهيرة بين مجموعة مشردات في مثل سنها وما إن أقبلت حتى ركضت نحوي تدعوهن وتخبرهن بتفاخر
(شوفوا هاي اللي كلتلكم عليها هاي ماما اسميها ماما هاي أمي)
بمرور الأيام صارت لاتطلب مالا حين تراني بل تبتسم تحتضني فاسال أتريدين شيئا ما ؟ااجلب لك شيئا تحبينه ؟اطلبي
تقول (اريد كيكة)
وأحمل لها في اليوم الثاني قالب كعك بالشوكولا من أرقى محلات الحلويات ، تفرح ،تبتسم ابتسامة يتيم في عيد توزيع الكعك المجاني .
حين كانت في الثامنة حملت لها أكياسا كبيرة من الملابس الجميلة لأنني كنت أراها تقف في البرد القارس ترتجف بثوب خفيف مهترئ ،بعدها بأيام وجدتها ترتجف بنفس الثوب بلاغطاء رأس صوفي ولاشيء يدفئ رقبتها الصغيرة ،سألت باستغراب
(ليش ملبستي الملابس الدافية الجبتها الج ليش هيج مو راح تتمرضين)
قالت (أمي متقبل ،لبستها اليوم وضربتني وكالت لتلبسيهن وتطلعين هيج)
كانت الأم ارملة تعيل اربعة وهذه أكبرهم كلهم شحاذون الأم وأولادها ومن شروط أن تكون شحاذا لابد أن تقف مرتجفا ترتدي اسمالا بوجه متسخ ليفهم الناس من مظهرك المزري أنك محتاج ،فيمدون لك مايفيض أو ما (يعتقدون) أنه سيخلصهم من نار جهنم السوداء .
في عيد ميلادها سالتها اطلبي هديتك،قالت
(هذا فد شي شفته بي شاشة وألعاب اريد منه )
قلت،تقصدين تاب ،تاب فيه ألعابا الكترونية وبرامج
قالت ،نعم هو
أهديته لها في يوم ميلادها فقفزت واحتضنتني بفرح امرأة ترزق مولودا بعد عقم دام سنوات.
كبرت (ه) صارت في الرابعة عشرة من عمرها ،صارت تجلس في الشارع خجلة من مد يدها لاستجداء (الف دينار) ومررت أنا بأزمة ،مرضت لسنة تقريبا فكنت منعزلة امر بوجه حزين دون أن التفت ،كانت تراقبني من بعيد دون أن تقترب مني .
لم تعد تركض لتحتضنني كانت تبتسم لي من بعيد ، ربما شعرت بأنني خذلتها ، لم اخذلها لكنني مرضت بسبب خذلان وصدمة فتقوقعت ،ثم في يوم اختفت (ه) للأبد .
لكنها تركت اخوتها الصغار يفترشون الشارع كل صباح وظهيرة ،يروني فيركضون نحوي ،احتضنهم،امزح معهم،بعد أن لعقت جراحي ونهضت ،أسالهم عنها ،يقولون تزوجت.
طبعا قبل سنوات اخبروني بأن امهم توفيت وخالتهم هي من تأويهم ،يشحذون ويرمونه في حجرها وحجر زوجها.
هؤلاء الأولاد الصغار ،اخوتها حين امر يركضون نحوي يلتفون ويثرثرون ،يراهم أصدقائي من بعيد ويراهم رجل الحرس الخاص بمكان العمل فيعقبون محذرين
(دكتورة لتنطيهم مجال ترا ذولة ديستغلوج)
اخبرهم (أتصدقون لم يطلبوا مني حتى الألف المعتاد ! هم يضحكون ،يثرثرون ،يقول أحدهم اريد تجيبلي تي شيرت للعيد والآخر يقول بنصف اسنان مثلومة اريد نثتلة ،)
وجوههم متسخة شعورهم مشعثة اظافرهم سوداء قذرة وجلدهم لم يمسه الماء منذ عدة أيام ،لكنهم يفهمون معنى الحب ويشعرون به ،فاقد الشيء يعطيه بسخاء إلا فاقد الضمير والسايكوباتي لايفهم العطاء ولايحتاجه.
اخبرتني أحدى الأمهات يوما وهي على فراش المرض بأن ولدها البكر الذي حملته وهن على وهن وأرضعته سنتين حليبها حانية ظهرها ساهرة ليلها خوفا عليه من الحليب الصناعي والذي تطعمه وتكسيه وتطببه بكل مافي قلب الأم من رحمة وحب ،حين عاتبته يوما قائلة
لماذا تعكف في غرفتك فلا أراك لأيام ،أنت لاتخرج ألا لتاكل أو تتغوط ،إلا تجلس معي قليلا؟!! أجابها ليس لدي رغبة لمجالستك أو الحديث معك قالت دامعة ولما؟ قال لاأملك اي مشاعر نحوك إلا تحبني !أنا امك!
لا ،لاأشعر بالحب نحوك
لكن بالتاكيد انا موجود هنا ان احتجت اي شيء لن اتخلى عنك ، أمرني الله بالطاعة ولم يرغمنا على المشاعر فهو يعلم لاسلطة لنا عليها وأنا لاأريد أن أغضب ربي ،فأنا اطمح بجنته وأخشى ناره ،لذا اذا طلبت مني خدمة سأسديها لك ،اما الحب فلا املكه.
كانت الدموع تغسل وجهها الشاحب وشيء ما ينغز في قلبها كأن فأرا يتحرك في ضلوعها يقرض خبزا جافا ،يصعد نحو حلقها يخنقها ،قالت وشيء يقبض على صدرها :
الله حب ومحبة والجنة لايدخلها من لايعرف الحب
تأكد لن أطلب منك شيئا ولو كنت الفظ آخر نفس لي .
لقد كان أبنها متدينا جدا.
عندها تذكرت انا (ه)وأخوتها وتعطشهم لحضن، للمسة يد حانية لإبتسامة لثرثرة قصيرة تحت اشعة الشمس الحارقة ،(لنثتللة) من يدي لأبو الأسنان المثلمة ،لحضن ولو من امرأة ليست بأمهم حتى!
كثيرون جدا لايميزون بين الذهب والصفيح ،ولولا حفنة من دمعات ساخنات ونوم طويل لكانت رصاصة واحدة في الرأس كافية للخروج من حفلة الحياة الداعرة هذه .
يقول ديستويفيسكي
(لقد سرقوا مني الكثير ثم اعطيتهم الباقي من تلقاء نفسي)
هذا ماقد يصل إليه أحدنا حين تدفعه الحياة نحو نهاية المنحدر ،اليأس ،الإستسلام
لم تكن المرأة في قصة تشيخوف(المغفلة)بمغفلة أو غبية لكنها كانت يائسة تماما
قال لها رب المنزل وقد كانت مربية أولاده وهو يقطع ثلاثة أرباع أجرها الشهري كي يلقنها درسا بكيفية الوقوف والدفاع عن حقها
_لقد سرقتك ، رميت لك بالفتات ،لماذا لم تحاولي ،لماذا انت صامتة مستسلمة هكذا !!
من بين دموعها قالت :
في مكان آخر لم يكونوا يعطونني شيئا ياسيدي .
حين يصمت الناس على الذل دهرا ويبتلعونه علقما ويعتقد القساة بأنهم شياه وفئران تعيش على بواقي الموائد هذا ليس غباء بل ضياع وألم طويل ودمعات مختنقة كصغار الفيلة حين تربط اقدامها بالقيود في السيرك ثم تكبر وقد تعودت القيد لاتتحرك بابعد مما يأمرونها به حتى بعد أن تكبر ويفك قيدها .
لم تكن (ه)وأخوتها بحاجة لألف دينار بل لألف قبلة وكلمة حب .