تكلمتُ في المقالين السابقين عن أهمية التوحيد وخطورة أن يقع المسلم في الشرك، وأنه محبط للعمل الصالح.
وهذا هو اللقاء الثالث الذي نتكلم فيه بإذن الله تعالى عن أركان التوحيد، أو عن معانيه الأساسية التي لا بد للمسلم أن يَعرفها حتى يكونَ موَحِّدًا توحيدًا مقبولا عند الله تعالى، وينجيه من العذاب في الآخرة.
وقبل أن نشرح أركان التوحيد أو أسس التوحيد نسأل سؤالا يُبين لك بوضوح بعضَ المعاني التي لا يَعلمها كثيرٌ من المسلمين، وهذه المعاني لها أهميةٌ كبيرة في فهم التوحيد الذي بُعِثَت الرسلُ من أجله.
لماذا رفض العرب أن ينطقوا بكلمة التوحيد، (لا إله إلا الله) مع إيمانهم بالله وأنه الخالق والمدبر للكون؟
كما قال الله تعالى عنهم في رفضهم قبول شهادة التوحيد: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ). الصافات: 35-36
وكما قال تعالى عنهم أنهم كانوا يؤمنون بأن الله هو الخالق: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). الزخرف: 87
وقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) العنكبوت: 61 . فتراهم يقرون بهذا المعنى ولا يكفرون به.
واقرأوا هذه الآيات التي تُبين ذلك بوضوح وأنهم كانوا يعترفون بالله وببعض صفاته: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ). يونس: 31
ومن المعلوم في تاريخ قريش والعرب كانوا يحجون كل عام، وكانوا أحيانًا يصومون لله، وينذرون لله، ويعتكفون أحيانًا في البيت الحرام لعبادة الله، وأنهم يخدمون حجاجَ البيت، فيسقون الحجيج، ويطعمونهم وغير ذلك من الخدمات التي كانوا يؤدونها لحجاج بيت الله كل عام.
فلماذا رفضوا الإقرارَ بكلمة التوحيد مع كل هذا، بل وفضلوا محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وقتالَه ومن معه، على الإقرار بلا إله إلا الله؟.
الإجابة: تكمن في معرفتهم التفصيلية بمعنى (العبادة) وبمعنى (الإله).
فهم كانوا يعرفون أن كلمة الإله معناها (المعبود)، وليس معناها (الخالق) كما هو مشهور عند عامة المسلمين.
فهم أنكروا توحيدَ المعبود، لا توحيدَ الخالق، يعني أنكروا قَصْرَ العبادة على الله وحده، وتَرْكَ عبادةِ ما سواه، وقالوا متعجبين من دعوة النبي لهم إلى التوحيد: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ). سورة ص: 5
وكما حكى الله عن قوم هود – قبل قريش – أنهم قالوا لهود عليه السلام: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟) سورة هود: 70
-فالعرب وقريشٌ كانوا يعلمون تمامًا أن من صُرِف له شيءٌ من أنواع العبادة يُسَمى إلهًا في اللغة، ولو كان حجرًا أو شجرًا أو كوكبًا أو جنًّا، أو بشرًا.
-ولذلك فهم كانوا لا يأنَفون أن يَعترفوا بأنهم مشركون، أو يُرْمَوْا به، لأنهم فعلا كانوا يعترفون بأنهم مشركون، ولا يرون في ذلك أدنى حرجٍ لهم، ولم يكونوا يَرون في ذلك سبًّا أو عَيبًا، بل كانوا يتمدَّحون بذلك، كما قال أبو سفيان – قبل إسلامه – في غزوة أحد للمسلمين: (اعْلُ هُبَلُ) يَغِيظُهم بذلك، ثم قال بأعلى صوته: (لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ)، ولم يرَ في ذلك أدنى حرجٍ، لكنهم كانوا في نفس الوقت، يأنفون تمامًا أن يُطلق عليهم أنهم كفارٌ؛ ولذلك عندما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، وتعبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً) رد الله عليهم وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) لأنهم كانوا يرون أنهم ليسوا كفارًا بعبادتهم غيرَ الله، ولم يقل لهم: (يا أيها المشركون) لأنهم كانوا يتمَدَّحون بهذا الشرك.
وهم كانوا كذلك يعلمون معنى (العبادة) في اللغة: فالاستغاثةُ بالأصنام، أو الصالحين، أو غيرهم، وطلبُ النفع منهم، أو دفعُ الضر عن المستغيثين، أو الذبُح والنذرُ لهم، أو السجودُ لهم، والطوافُ بهم، أو الخوفُ منهم أن يضروهم، أو رجاؤهم أن ينفعوهم، كلُّ ذلك يُسمى عبادةً في اللغة، وهم كانوا يعلمون ذلك تمامًا من لغة العرب.
والدليل على ذلك قولهم باعترافهم أنهم كانوا يعبدون غير الله، ولا يرون في ذلك بأسًا: أنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) الزمر: 3.
وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام: عندما قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا:(نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ). سورة الشعراء.
أما كثيرٌ من المسلمين اليوم: فهم لا يعلمون على الحقيقة معنى كلمة (الإله)، ولا معنى كلمة (العبادة) في اللغة والشرع.
فترى بعضَ المسلمين يؤدي بعضَ العبادات لغير الله من الأولياء والصالحين والطواغيت وغيرهم، ثم يقولون لك: نحن لا نعبدهم، ونؤمن بأن اللهُ وحده هو المعبود، ونحن نؤمن بأنه لا إله إلا الله..
-وهم لا يعلمون أنهم أشركوا بالله عز وجل، وأنهم فعلوا مثلَما كان المشركون يفعلون تمامًا، ولكنهم في نفس الوقت يَنفون عن أنفسهم أنهم أشركوا بالله، وفي نفس الوقت لا يعلمون بهذا الشرك.
-ولعلكم تذكرون المرأةَ التي ذهبت عند ضريح أحمد البدوي في طنطا في مصر، وتمسَّكَت بالضريح، وقالت له بالنص وهي تصرخ مستغيثةً به: (سُقْتُ عليك النبيَّ، تَشْفي لي ابني يا أحمد يا بدوي). وهذا شرك صريح بالله عز وجل، وإلا فإن لم يكن هذا هو الشرك، فما هو الشرك إذن؟.
ومن أجل هذا وجب على المسلم أن يَعرف المعنى الحقيقي لكلمة التوحيد، ومعنى كلمة (الإله) في اللغة وفي الشرع، ومعنى كلمة (العبادة) في اللغة وفي الشرع، حتى لا يقع في الشرك وهو لا يعلم.
ولنشرح الآن أركان التوحيد الأربعة، ثم نبين معنى الشرك وأنواعه تفصيلا بإذن الله.
فحتى تكون موحِّدًا لله عز وجل توحيدًا تامًّا ينجيك من العذاب، فلابد أن تعتقد في الله أربعةَ معان، وهي أركان التوحيد.
فكما أن للإيمان أركانًا لا بد باجتماعها في المؤمن حتى ينفعه هذا الإيمان عند الله وفي الآخرة، وكذلك الإسلام له أركانٌ لا يصح إلا باعتقادها، فكذلك التوحيدُ له أربعة أركان لا يصح إلا باجتماعها في عقل المسلم وقلبه، مع الإقرار بها لله عز وجل.
فما هي هذه الأركان أو المعاني؟
الأول: أن تعتقد أن الله تعالى هو ربُّ الكون وخالقُه وأنه لم يُشاركه في الخلق أحدٌ مطلقًا، وأنه سبحانه هو المتصرف في الكون وحده، وهو مدبِّرُه ومنَظِّمُه وحده، وهو القادرُ على جلب النفع لك، ودفعِ الضرِّ عنك.
والمعنى الثاني: أن تعتقد أنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده، وأنه لا يجوز صرفُ شيءٍ من العبادة لأحد غيره، أو لشيء سواه، سواءٌ كان ملَكًا مُقرَّبًا، أو نبيًّا مرسلًا، أو وليًّا من أولياء الله الصالحين، أو غير ذلك.
فكلُّ ما اعتبرتَه الشريعةُ عبادةً فلا يجوز صرفُه لغير الله تعالى.
والمعنى الثالث: أن تعتقد أن الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات المقدسة التي لا يشابهه فيها أحدٌ من المخلوقين.
-وأنه تعالى ليس كمثله شيءٌ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فلا تُشّبِّه اللهَ تعالى بشيء مِن مخلوقاته، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، كما سنشرح فيما بعدُ بإذن الله تعالى.
إذْ تشبيهُ الله بخلقِه كفرٌ، وتشبيهُ بعضِ العباد بالله فيما انفرد الله به واختصَّ به: كفرٌ أيضًا.
-وأن تعتقد أن كلَّ أسمائه وصفاتِه وأفعالِه كمالٌ مُطلقٌ، ولا نَقْصَ فيها بوجهٍ من الوجوه. وعلى هذا اتفقَ علماءُ المسلمين.
والمعنى الرابع: هو أن تعتقد أن الله تعالى هو الذي يملك وحده حقَّ التشريع لعباده، وأنه هو الذي يحلل لهم ويحرم عليهم، وأنه ليس من حق البشر ولا الرسول أن يشرعوا للخلق.
وقد ذكرتُ بعضَ الآيات في هذه المعاني الأربعة في المقال السابق، وسوف نتناولها إن شاء الله تعالى بشيء من التفصيل في الحلقات التالية، ثم نُبين معنى الشرك في الربوبية، والشرك في العبادة، والشرك في الأسماء والصفات، والشرك في الحكم، وما هي الصورُ الشركية الموجودة في العالم الإسلامي – في كل هذه المعاني الأربعة – حتى لا يقعَ المسلم في شيء منها. عافانا الله وإياكم والمسلمين بفضله وكرمه.
إخواني الكرام، أكتفي بهذا القدر، ونكمل في القاء الرابع بإذن الله تعالى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مدرس الشريعة بكلية دار العلوم، ج القاهرة