ثمت علاقة بين ما يصدر من سلوك إنسان وما يمتلكه من قيم؛ إذ تُعد من الموجهات الرئيسة لما يقوم به من مناشط بمختلف تنوعاتها، ومن ثم بات الاهتمام باكتساب الفرد مجموعة من القيم التي تساعد في ضبط السلوك ليصبح في الإطار الذي يرتضيه المجتمع ويحث عليه؛ وفي هذا الخضم قد يختلف النسق القيمي من مجتمع لآخر وفق معتقده وثقافته والغايات الرئيسة التي يتبناها ويسعى إلى تحقيقها؛ بالإضافة إلى تاريخه وحضارته باعتبارهما من موجهات تحديد هذا النسق والتمسك به.
وهنا تبدو المسئولية في تشرب النسق القيمي الذي يؤمن به المجتمع واقعًا على كاهل الأسرة وعاتق المؤسسة التعليمية؛ فيحرصنا بصورة مقصودة على غرس ماهية القيمة لدى الفرد بأساليب وطرائق متباينة؛ لكن المحصلة يتوجب أن تقوم على فلسفة التكامل في تنميتها أو صقلها في الأذهان والممارسات؛ فنرى أن تقويم أو تعديل السلوك يشكل حجر الزاوية في هذا الأمر؛ فمن الطبيعي أن تجنح تصرفات الإنسان ومن ثم يصبح في عوز إلى تعديل المسار من قبل من يمتلك الخبرة في هذا الإطار.
وطبيعة الإنسان دومًا ما تميل في كليتها لما تحبه النفس ولو كان غير منضبط أو يؤدي جراء اقترافه لنتائج غير مرضية أو قد يؤذي النفس والآخرين، وهذا الميل قد يكون بقصد أو غير قصد، وفي كلا الحالتين نحتاج لتعديل هذا الميل لنضعه في إطاره السليم؛ فنتحصل على ممارسات مقبولة يتلوها نتائج ننشدها؛ فلا تعتاد تلكما النفس على منحرف السلوك وتستهدف منحرف الطريق مهما تعالت الاغراءات وتنوعت أنماطها وألوانها؛ فيصبح لديه معيار حاكم وموجه في ذات الوقت؛ ألا وهو نسقه القيمي الذي تجرعه وذاق طعمه.
وللقيم دور في تشكيل طبيعة العلاقات الإنسانية على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ فعلى إثرها تتضح ملامح علاقة الفرد بمحيطه؛ فنراه يستوعب ماهية وأهمية الحرية المسئولة والعدالة والمساواة والديمقراطية التي تقوم على المشاركة المنضبطة، ومن ثم لا يتقبل ماهية وأثار الظلم أو القهر أو الاستغلال، وغير ذلك مما يتعارض مع نسقه القيمي السامي، كما نرى أن من يمتلك الولاء والانتماء والعزة والكرامة يثابر من أجل أن ينال غيره إياها ويتذوق طعمها وينعم بها.
وتحث القيم على جانب مهم يشكل لبنة إعمار الأرض، وهو التنمية؛ حيث إن تحسين مفردات الحياة رهن تفعيل هذه العملية التي تقوم على إدراك يوجه الطاقات ويستثمرها في إحداث تغييرات تتسم بالشمول والاستدامة لمجالات تدور في فلكها سياسة إعمار الأرض ورقي العيش في ربوعها سواءً تعلق ذلك بآليات السياسة أو الاقتصاد بما يحقق جودة الحياة المجتمعية ويعمل على خلق الرفاهية التي تنشدها البشرية وتثابر من أجل نيلها.
وعطفًا على ما تقدم نؤكد أن منظومة القيم السامية تعمل بصورة ممنهجة على التحول الهيكلي في شتى مسارات الحياة العلمية والعملية والمعيشية؛ حيث تدفع وتشجع الفرد والمجتمع على تحقيق الغاية من خلال الأخذ بالأسباب والتي تبدء ببذل جهد منظم ومقصود للتحصل على المعارف والممارسات المتسببة في التغيير لما هو أفضل، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تتابع إضافة الأعمال المصبوغة بجديد الفكر فنرصد نتائج أفضل من حيث الفائدة والجدة، وهذا يزيد من شغف الابتكار لدى الطبيعة البشرية وينقلها من مربع حل المشكلات لدائرة الخلق والإبداع بصفة مستدامة.
إن فلسفة تعاظم الاقتصاد تقوم على تنمية معرفية صحيحة وعميقة تزداد يومًا تلو الأخر، وفي مقابلها تتعالى أسقف الطموحات والآمال، كما تتنامى الرغبة حيال توظيف التقنية التي تلبي احتياجات أضحى الإنسان في أمس الحاجة إليها؛ فطبيعة العصر المتسارعة فرضت ظلالها على شتى مناحي الحياة وفي مقدمتها المجال الاقتصادي بكل تلوناته، ومن ثم تحفز القيم النبيلة بنو البشرية على العطاء اللامتناهي باعتباره يمتلك مهارات التفكير العليا التي تزود تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتمده بكل جديد يساعد على إنجاز مهام متميزة ومبهرة.
ولا ريب من أن هناك مقومات للتنمية الاقتصادية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمنظومة القيم؛ فإذا ما عقد الشراكات واستثمر التعاون تجاه تسريع الحصول على المنتج؛ فإن الجميع رابح لا محالة، وإذا ما سادت العدالة داخل المؤسسات وبين المجتمع صارت الجهود مضاعفة حيال تحقيق المستهدف، وإذا ما رسخت سياسة الانضباط والالتزام والوفاء بالعهود والرغبة في الوصول لمستويات الإتقان؛ فإن هذا يؤدي حتمًا لتهيئة مناخ داعم لازدهار هذا المجال الذي يفي بمتطلبات واحتياجات وتطلعات المجتمع قاطبة.
ولا نبالغ إذ نقول إن الخلل في منظومة القيم النبيلة للمجتمعات يؤدي لعثرات جمة في التنمية عامة وفي القلب الاقتصادية منها؛ فيصعب أن نحصل على منتج نقي؛ فبديل ذلك دون مواربة التشويه، كما أن احتمالات ضعف الرغبة في العمل والسعي لتحقيق الغاية منه تصبح ضعيفة؛ فالكثير من المعوقات المعنوية والمادية سوف تقف حجر عثرة في إحداث التنمية الاقتصادية التي ننشدها.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر