في أوائل الثمانينات استدعاني مدير مستشفى باب الشعرية الجامعي للمثول أمامه شخصيا في مكتبه الحصين المنيع !!
كنت طبيبا مقيما يخطو أولى خطواته في الطب (تا تا، كما كنت أقول)! وكان هو أستاذا حديثا في أحد التخصصات الجراحية، ومعروف عنه أنه من المقربين لبعض مراكز القرار، فكانت له قوة وسطوة في زمن ما مضى منذ أن كان مدرسا، إلى أن تم تعيينه مديرا للمستشفى، متخطيا من هم أقدم وأكفأ منه من الأساتذة، ولكن لله في كل شيء حكمة، وله في خلقه شؤون.
وبمجرد أن جلس على الكرسي الجديد بمكتبه المهيب حتى أمسك بالقلم وراح يكتب أولى قراراته، التي جعلت كل من في المستشفى يتذكر مقولة (الغربال الجديد له شدة) ! وكان من أثر هذه الشدة أنها كانت زيادة حبتين !! وواجه العاملين بالمستشفى بمختلف درجاتهم سيلا من القرارات الهمايونيه، والأوامر القراقوشية ! والتي لم ينج منها أحد من رعاياه العاملين! بل وامتدت الشدة لتصبح عدة شدات مستمرة حتى انقطع الغربال!!
ولم أكن مهتما بهذا كله لانشغالي بعملي، فليكن من يكون مديرا أو غفيرا، فعملي في القسم وتحصيل العلم فيه هو شغلي الشاغل، وليس غير ذلك،
إلى أن وقعت الواقعة وانفجر البركان، بصدور قرار صريح مباشر من الآمر الناهي أن يقوم الأطباء المقيمون بالمستشفى بالتوقيع في دفتر الحضور والانصراف وذلك بمكتب سكرتيرته الملحق بمكتبه !!
وبمجرد أن علمت بالقرار حتى أدركت أنه قد فرض علي القتال فرضا، وأصبح الرد بموقف حازم حاسم حتميا وإجباريا، فقد تجرأ قراقوش المستشفى واقترب مني!! بل واستفزني عامدا استفزازا يرقى لإعلان الحرب !!
وفي ذلك الوقت كان عدد الأطباء بمصر محدودا، ليس بالكثير، أقل من واحد على عشرة من الموجودين حاليا، وكان لهم مكانتهم وقدرهم في المجتمع قانونا وعرفا، حتى أن نقابة الأطباء كانت تمنح من يريد من الأطباء ملصقا لزجاج سيارته عليه صورة الهلال الأحمر الذي يرمز للطب في مصر، حتى يعرف القاصي والداني أن هذه سيارة طبيب، شخص محترم له مهابة، يحق له عدم الالتزام بقواعد المرور من وقوف في الممنوع وغيره عند الضرورة الطارئة أو حتى الروتينية في بعض الأحيان. وكان معروفا في إعلانات بيع السيارات في ذلك الوقت أنها (استعمال طبيب)، أي سيارة مميزة وبحالة جيدة وصاحبها شخصية مرموقة !!
إذن فأنا الطبيب صاحب المكانة التي لا يستطيع أحد أن يتجرأ ويخدشها مجرد خدش. ضف على ذلك اعتدادي الشديد بنفسي منذ أن التحقت بكلية الطب، حيث اعتبرت نفسي طبيبا من أول سنة!! وازداد ذلك بعد أن أصبحت طبيبا يملأ عين الشمس، ولكن دون كبر أو غطرسة أو تعالي على عباد الله، فالاحترام حق للجميع على السواء بلا تمييز باطل، وأساس لا شك فيه حتى يثبت العكس. بل وكنت أقدر قيمة الطبيب مخبرا ومظهرا، فلم أكن أقدم على أي تصرف في العمل أو غيره يخرج عن مكانة الطبيب. وكنت حريصا على المظهر الذي يتفق مع تلك المكانة، أرتدي البالطو الأبيض النظيف الأنيق، وعلى جيبه الأعلى دبوس ذهبي، علاوة على السماعة الإنجليزية المعلقة بالرقبة، وقلم الحبر الذهبي في الجيب، وأدوات الكشف الطبي من مطرقة وكشاف وغيره تبدو رؤوسها في الجيوب على الجانبين، والحذاء الذي يبرق من بعيد من شدة اللمعة!! نعم كنت هذا الطبيب، الذي دار عليه الزمان، بل وفتك به، ليتجرأ على مقامه مدير مستشفى جديد، يشد الغربال على الأطباء، ويلزمهم بالتوقيع في دفتر الحضور والانصراف مثلهم مثل الموظفين بالمستشفى!
التزم الجميع بالقرار، وبدأوا في المثول أمام السكرتيرة في مكتبها الجميل للتوقيع حضورا وانصرافا، إلا أنا بالطبع وعلى وجه التأكيد !! فلم أتصور مجرد تصور، أن أقف أمام سكرتيرة المدير لأوقع في دفتر مهما كان نوع العطر الذي تستعمله، وقد تقول لي يوما لقد تأخرت عن موعدك يا دكتور فالتزم بمواعيد عملك! إنها الكارثة والزلزال والتوابع إذن، بل إنها ساحة التحدي والقتال، والزود عن حق النفس في الحياة !!! فما كان مني غير إهمال القرار تماما لأسابيع، وكأنه لم يكن، حتى استدعاني مدير المستشفى للمثول أمامه شخصيا في مكتبه الهمايوني الهتلري.
وذهبت فاستقبلني جالسا، فلم أسلم وجلست أمامه دون إذنه. ودار الحديث الذي أّذكره تماما بتفاصيله حرفيا، لما كان له من أثر كبير على مجريات حياتي بعد ذلك.
بدأت الحديث بسؤاله: خير حضرتك ؟ فقال بلهجة آمره: أنت الطبيب المقيم الوحيد في المستشفى الذي لم ينفذ قرار التوقيع بدفتر الحضور والانصراف، لماذا؟ ألم تسمع بالقرار؟! فقلت بلهجة حاسمة: سمعت وقرأت وعلمت ولكني وجدته قرارا خطأ ولا ينطبق على الأطباء المقيمين، لأنهم بمسمى وظيفتهم هم مقيمون بالمستشفى على مدى 24 ساعة يوميا، ولهم غرف نومهم وطعامهم فيها، ولا يغادرونها ليوم أو غيره إلا بالتنسيق مع رؤساء الأقسام المشرفين على عملهم، وهم من يقدرون مدى الحاجة لانصراف طبيب مقيم ومدة ذلك، وهم من يكتبون التقرير السنوي عن نشاط كل طبيب والتزامه، لأن الغاية في أقسام المستشفى هي تسيير أعمال القسم على الوجه الأكمل وليس الارتباط بوقت محدد.
انزعج انزعاجا شديدا لردي عليه، وتغير لون وجهه، وقال بغضب: (ده يافندي نظام دولة وكل موظف لازم يثبت حضوره وانصرافه بدفتر الإدارة). فأجبته بصوت منخفض مستفز: (يا دكتور أنا طبيب مش أفندي) وللأطباء ظروف عملهم الخاصة التي تعرفها والتي من تداعياتها حياة وموت، وإذا أردت مني أن أتبع نظام الدولة الذي تذكره إن كان صحيحا، سأفعل بلا شك، ولك أن تراني تمام الساعة الثامنة صباحا أمامك وليس أمام السكرتيرة، لأوقع حضور، وفي الساعة الثانية ظهرا تماما سأوقع أمامك أيضا الانصراف، ثم سأنصرف من المستشفى فورا مثل بقية الموظفين الإداريين الملتزمين بعمل 6 ساعات يوميا، ولن يمنعني عن ذلك ما يمليه عملي كطبيب مقيم هنا، أن أظل بالمستشفى، فتلك مسؤولية المستشفى وليست مسؤوليتي، وإذا ألزمني نظام العمل للضرورة للقيام بنوبتجية بعد وقت العمل، فلابد من أن أحصل على بدل لكل ساعة عمل أقضيها في المستشفى، وإلا يكون العمل سخرة يمنعها القانون! وهل حضرتك توقع حضور وانصراف أمام السكرتيرة أم ليس لك توقيع ؟!
صعق لردي عليه هكذا، وثار ثورة كبيرة، فوقف وارتفع صوته، وقال (انت دواك الفصل وهاتشوفه). فأجبت على الفور: لابد أن تكون هناك أسباب قانونية للفصل، ( وده قانون العمل )، ولعلم حضرتك قبل أن تتخذ أي قرار قد لا تعجبك تداعياته، فوالدي من كبار المحامين في مصر، وقد أخبرته بقرار الحضور والانصراف، فقال إنه غير قانوني لمسمى وظيفة طبيب مقيم الذي لا ينصرف بحكم العقد مع المستشفى، ويقيم فيها إقامة مستمرة على الدوام لثلاث سنوات وهو تحت إشراف أساتذته، وإلا أخل بالعقد. ويجب على الإدارة أن تعوضه عن كل ساعة عمل خارج استحقاق المكافأة الشهرية، مثله مثل سائر العاملين في الدولة الذين يعملون 6 ساعات فقط في اليوم، فلهم المقابل عن غير ذلك من ساعات عمل زائدة. وقال يافندم لو المستشفى أصرت على التوقيع فيجب تغيير عقد مسمى طبيب مقيم، وتعديل طبيعة عمله في لائحة المستشفى أولا، واعتماد نظم جديدة لساعات وجودهم في المستشفى، ولو رفعت قضية سيعوضني الحكم عن أي ضرر!!! فلا داعي للخصومة يا فندم، أنا أطالب بحقي فقط، ولا أختصم أحد، ولن أنفذ القرار مهما كان، ولو تطلب الأمر تقديم استقالتي المسببة قانونا بمذكرة محامي.
في نهاية حديثي كان ينصت بشدة واحمرت أذناه كعرف الديك، ثم انقطع الحديث ليقوم بالرد على مكالمة هاتفيه، ثم التفت لي وقال: (اتفضل مع السلامة هافصلك وانت الجاني على نفسك)!!
إلا أنه لم يجرؤ على ذلك، ولم يفصلني، وقد علمت بعد فترة طويلة من مصدر موثوق أنه استشار من نصحه بالابتعاد عن هذا الطبيب المشاغب، الذي يبدو أنه لن يستسلم بسهولة، وسيقيم الدنيا ولن يقعدها، وخلفه قوة ليست سهلة، وخاصة أنه لم يروج أسباب عدم توقيعه لزملائه بالمستشفى واحتفظ بذلك لنفسه، فهو لا يحرض على الإدارة.
واستمر عملي في المستشفى، وأخبرت أساتذتي في القسم بما حدث، وكنت أعرف أن علاقتهم بهذا المدير سيئة مثلهم مثل معظم اعضاء هيئة التدريس، فوافقوني على ما فعلت (ماتسمعش كلامه وخليك في شغلك احنا المسؤلين عنك).
ومضت السنوات بوتيرة واحدة دون حضور وانصراف وغيره، إلا أن المدير منع عني الحوافر وكل الزيادات في مرتبي حتى آخر يوم في عملي، وكان ردي على ذلك هو قيامي بالتنازل عن مرتبي الذي يبلغ 150 جنيه في هذا الوقت شهريا عند القبض من خزينة المستشفى مع توقيعي على ورقة تبرع بكامل قيمة المرتب للمستشفى !!
يعني استفزاز شباب لم يكن له داعي أبدا، وعناد لم يكن له موجب، ولكن ما حدث قد حدث.
وظل هذا المدير يصدر قراراته البهلوانيه التي لم تضف للمستشفى شيئا، بل على العكس كانت تعرقل عجلة العمل كثيرا، وتغضب العاملين وتحبطهم.
وظل الأمر بيني وبينه كما هو (إنت في حالك وأنا في حالي) إلى أنتهت فترة طبيب مقيم، وانتظرت الإجراء الروتيني للمستشفي وهو تسليمي خطاب شكر يفيد قضائي فترة طبيب مقيم بدرجة كذا، وهي الدرجة التي كان يضعها رئيس القسم لي، وكانت ممتاز لكل سنة من الثلاث سنوات. انتظرت الخطاب اللازم لأي وظيفة أتقدم لها بعد ذلك، ولكنه لم يصدر، وسألت في الإدارة عن ذلك فعلمت أن المدير اللذيذ العجيب منعه، واعتبرت ذلك طفولة وصبيانية وعدوانية منه ، ويريد بذلك كما يظن ويأمل أن يؤثر على مقبل الوظائف قي مستقبلي، وكان خطابي هو الخطاب الوحيد الذي منعه دون كل الأطباء !! ولم يكن من حقه ذلك، فحقي القانوني أن أتسلم ما يفيد فترة عملي المستشفى والدرجات التي حصلت عليها، ولكني لم أهتم بذلك، حتى لا يشعر هو أن توقيعه له أهمية عندي !!
وخرجت من المستشفى ولم أعد لها مرة ثانية، إلا وأنا أستاذ، ذهبت لأزور القسم الذي كنت أعمل فيه طبيب تا تا !! وأسترجع ذكرياتي فيه ومعه غرفة غرفة، وحجرة عملياته وما كان فيها، وعيادته الخارجية وأسلوب العمل فيها، والاستقبال ومعاركه، وكل مكان من هذه يحتاج مقالا وحده! وألقيت نظرة من بعيد على باب الجناح القديم لمدير المستشفى، وقلت وأنا أبتسم (يا دكتور.. أنا طبيب مش أفندي) !! ثم أقول صوت مسموع (دنيا) !!
وأتذكر عندما كنت طبيبا مقيما معتدا بنفسه جريئا، وهو المستشفى الذي أحببته رغم كل ما واجهته فيه من أحداث شتى، إنها المستشفى التي لها اسم آخر (مستشفى سيد جلال)، وربما أعود لذكرياتي مع هذا الاسم يوما ما، إن كان في العمر بقية.
هل كنت محقا في موقفي إذ أخذتني فورة الشباب والقدر والمكانة ؟ لست أدري ولكني مازلت على يقين أنني فعلت الصحيح، ووضعت كرامتي وكرامة مهنتي في وضعها اللائق بها مهما كانت القوانين والتبعات. ويحضرني أيضا في ذلك أن الدليل الأقوى على أنه لم يكن موقف شباب جامح، أني بعد ذلك في حياتي العملية لم أتبع قانون الحضور والانصراف أبدا، وكان هذا شرطي الأول والأساسي، الذي لا مناقشة فيه، مع المستشفيات خارج مصر التي عرضت علي العمل فيها، فكان أنني الذي أحدد مواعيد عملي حسب متطلبات العمل التي أقدرها، وليست دفاتر الحضور والانصراف، وللمستشفى النتائج وتحقيق الأهداف فقط. قبلت أكثر المستشفيات شرطي هذا على مدى سفري الكثير المتقطع لفترات قصيرة بالخارج، وغيرها رفضت لخروجه على نظامها العام، فرفضت العمل فيها. إذن لم يكن الأمر له علاقة بفورة الشباب، بل كان مبدأ لم أحد عنه يوما، حتى أنني كنت ومازلت أقوم بتقييم عمل الأطباء الذين أشرف عليهم بقدر إنجازهم وليس الوقت الذي يقضونه في العمل فهذا شأن لا يعنيني، فالنتيجة هي الهدف وليست التفاصيل كيفما كانت.
ومرت الأيام والأحداث،ـ بل ومرت السنوات والتحديات وأنا في مصر وخارجها، حتى علمت أن هذا المدير الأفندي الموسوليني، الذي صعد سلالم السلم الوظيفي إلى درجات عليا مؤثرة، قد ضبط متلبسا صوتا وصورة بتلقي رشوة ضخمة من إحدى الشركات الكبرى نظير توقيعه على ورقة تهم هذه الشركة !! وأن التحقيق كان يتم بقسوة معه هو وشركائه في ذلك، ولم ينقذه إلا الموت، فقد مات وانتهى أمره في هذه الدنيا.
وهكذا عبرة الزمن، لابد للسيء أن يقع في شر أعماله يوما، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، والعبرة بالخواتيم.
والآن باتت مستشفى باب الشعرية الجامعي أو مستشفى سيد جلال مجرد ذكرى، هي وكل أحداثها وحكاياتها، وكم كان فيها من ذكريات لا تنفد ….