تأتي الدراما بمختلف صنوفها علي قمة راوفد القوي الناعمة التي تدعم التواصل الفعال، وتجسيد هموم المجتمع بأفراحه وأتراحه دون تهوين أو تهويل.
وتأتي الدراما القيمية علي قمة الهرم، لطبيعتها الوظيفية المقصودة بما تتضمنه من قيم سامية ومعالجة صادقة لما يموج بالمجتمع من طموحات وآمال وتطلعات.
كما أنها من أهم وسائل الحفاظ على الهوية والأصالة وتعزيز أواصر الترابط الأسري، وإبراز الوجوه والرموز المشرقة، وصناعة القدوة وتقديم النماذج الإيجابية والحلول المختلفة للقضايا الاجتماعية ومشكلات العلاقات الزوجية، والانتصار لقيم الخير والحق والعدل عبر آلية تجسيد صراع الخير والشر.
وبين الواقع والمأمول تبقي المسؤولية الاجتماعية والوطنية وأحيانا القومية ملقاة في أيدي صناع الدراما بحثا عن أعمال مقنعة وقوية تعبر تعبيرا صادقا عن واقع مختلف المجتمعات العربية، وتجسيد همومها واستلهام قضاياها المصيرية وسط هذه المتغيرات المتصاعدة.
وبالمقارنة بين الإنتاج الرسمي والخاص للدراما بكافة صورها نجد أن معظم الأعمال القيمة من مسلسلات وأفلام دينية وتاريخية ووطنية علي مدار التاريخ الفني تم إنتاجها من خلال شركات وطنية ورسمية، بعيدا عن فكرة دراما المقاولات وأفلام الإثارة والتربح، والتي تركت آثارا سلبية علي مسيرة الدراما، بل وشكلت منعطفا خطيرا في مسيرة الدراما المصرية صاحبة الريادة والتميز.
وقد آن الأوان لتصحيح هذا المسار في ظل التطور الرقمي والتقني، وإصرار بعض المنتجين علي تقليد الأعمال الغربية، دون الالتفات لمخاطر الهيمنة الثقافية وتزييف الواقع وتمييع الهوية.
وتبقي إدارة عملية الإنتاج الدرامي واستراتيجية
تمويل الدراما القيمية.. تنتظر كثيرا من التقييم والتقويم والمراجعة الصادقة بهدف تصحيح المسار، وإلقاء الضوء علي ما تقدمه من إيجابيات، والبعد عن الوجه المظلم لصناعة دراما خبيثة وموجهه!.
وأتصور أن علي رأس قائمة خطايا الإنتاج العربي الدرامي التركيز على عرض النماذج السلبية بصورة مبالغ فيها، وأحيانا مقززة ومستفزة وغير واقعية.
وأحيانا البحث عن الإثارة بكافة ألوانها والتناقضات المجتمعية، هدم قيم الأسرة ودعم التمرد عليها من خلال عرض المشكلات والصراعات داخل جدران الأسرة دون طرح حلول واقعية ومنطقية.
ومن صورها المرفوضة
تشويه العلاقات الاجتماعية، والمبالغة في تجسيد العلاقة بين المرأة والرجل وكأنها معارك حربية، أساسها الصدام والتنازع لا التكامل والمودة والرحمة!.
ومن خطاياها إغفال قضايا العرب المعاصرة والدراما التاريخية والدينية، وأحيانا الوطنية التي تعمق روح الانتماء والاعتزاز بمنجزات الوطن.
ولعل النموذج الأسوء لخطايا الإنتاج الدرامي تجاهل بعض القضايا العربية وعلي رأسها قضية فلسطين، وإنفاق مبالغ ضخمة لبث رسائل مغرضة، فمنذ عدة سنوات أنتجت بعض شركات الإنتاج العربي مسلسل “أم هارون” والذي يحكي قصة عائلة يهودية عاشت في دولة خليجية وتعرضت للتهجير والتضييق من وجهة نظر صناع العمل، المسلسل بطولة الفنانة الكويتية حياة الفهد، ووصفه بعض النقاد بأنه سقطة فنية لها وللعمل في مجمله، وانتكاسة درامية داعمة للكيان الصهيوني ولدعوات التطبيع!
وفي هذا الشأن امتعض كثيرون وهذا حقهم من نوعية الأفلام والأعمال التي تنتجها هيئة الترفيه السعودية من خلال صندوق “Big Time” الاستثماري السعودي- المصري الذي أُعلن عن إنشائه في مصر مطلع العام الحالي، وتدعمها هيئة الترفيه في المملكة.
ومن الأعمال التي أنتجت في إطار هذا التعاون المشترك، وحظيت بالقبول فيلم (الست) والذى يحكى سيرة حياة “كوكب الشرق” أم كلثوم، من بطولة الفنانة المصرية منى زكي.
ولكن أصحاب هذا الفريق يتحفظون علي أعمال أخري صنفت كأعمال تجارية هدفها الإثارة وتحقيق مكاسب مادية، دون الالتفات للأبعاد القيمية والأخلاقية، ومعظمها تدور فى فلك العنف والبلطجة والمخدرات ودنيا الملاهي والعبث، وربما يستهدف منتجوها غرس أفكار وقيم أيدلوجية وصناعة صور ذهنية لها صفات وأنماط بعيدة عن الواقع!.
ومن بين هذه الأعمال التي أثارت جدلا وانتقادا واسعا أفلام “أولاد رزق “،”الفيل الأزرق 3″ ،” النونو” ، استرلينى”،”ديربى الموت” ،”الشايب” و”الدراويش” ،”روميل” و”سيكو”، وغيرها.
بينما رأي فريق آخر أن هذه الأعمال حققت نجاحا كبير، وعلي رأسها الجزء الثالث من سلسلة أفلام “ولاد رزق”، وذلك في دور العرض المصرية والسعودية.
كما حظي التعاون الفني بين مصر والسعودية والذي لم يتوقف منذ سنوات طويلة بترحيب شديد، مثمنين ثمار هذا التكامل، فمصر لديها التاريخ الفني العريق والجماهيرية الطاغية لنجومها وفنانيها وهم الأكثر مهارة على مستوى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، أما المملكة العربية السعودية فهي تمتلك أكبر شركات للانتاج الفني والإعلامي وتستثمر أموالا بمليارات الدولارات في المجال الفني سواء في السينما أو المسرح أوقنوات التليفزيون الفضائية وتحقق أعلى الأرباح.
وبعد التغييرات الكبيرة التي حدثت في المملكة العربية السعودية عام 2017 زاد أهتمامها بصناعة الترفية، وهي واحدة من أهم الصناعات في العالم وتحقق أرباحا قياسية في دول عديدة شرقا وغربا كالهند والولايات المتحدة التي تفتح هوليود أستوديوهاتها العملاقة للاستثمار مع كافة دول العالم، وتكاد تكون كل الأفلام الأمريكية حاليا من الانتاج المشترك بين شركات هوليود الكبرى وشركات انتاجية أخرى في العالم، لذلك فكرت السعودية في تطوير التعاون الفني التاريخي مع مصر إلى الشكل الجديد المتداول في أسواق العالم بالانتاج المشترك للأفلام الجماهيرية.
ومابين وجهتي النظر وبعيدا عن لغة الاستثمار والتربح وصناعة دراما تجارية بحتة ، نبحث دائما عن الدراما القيمية التي لا تبالغ في تجسيد النماذج السلبية وتهتم بتقديم النماذج الإيجابية المضيئة والقصص الواقعية النافعة، وبالجوانب العقيدية والتراثية من خلال إحياء الدراما التاريخية والدينية، وعودة الدراما الاجتماعية القوية التي اعتادها المشاهد العربي عبر سنوات طويلة من حقبة الفن الجميل.
ويظل البحث عن الفن القيمي المبدع أملا يرواد كل عربي بحثا عن القيمة والمعني والحرفية، والموضوعية والمصداقية والاعتزاز بالهوية ودعم الرموز المبدعة قبل التفكير في المردود المادي وصناعة الترفيه المجرد.. وإنا لناظرون!!