هذا حدث جلل، يؤكد المقدرة الجبارة للعقل البشري على الذهاب عميقا في البحث والابتكار والاكتشاف،
حيث يمكن اعتبار الصور التي التقطها الأسبوع الماضي التليسكوب “جيمس ويب” بمثابة فتح جديد لفهم الكون القديم الذي نعيش في أحد كواكبه.
وفقا لما أعلنته وكالة ناسا الأمريكية، فإن هذا التليسكوب قد تمكن من التقاط عدة صور ملونة بالغة الجمال لأضواء غادرت مجراتها قبل 4.6 مليار سنة،
أما الضوء القادم من المجرات الخلفية، فعمرها أكبر بالتأكيد. هذه الصور العجيبة القادمة من عمق أعماق الكون تعد الأكثر دقة منذ أبحر الإنسان في خضم الفضاء،
الأمر الذي يكشف الإمكانيات الهائلة لهذا التليسكوب، والتي تفوق التليسكوب الأشهر “هابل” الذي أطلقته وكالة ناسا في الفضاء عام 1990.
لا عجب، فالتليسكوب “ويب” تكلف تشييده نحو 10 ميارات دولار، وهو الأقوى في علوم الفضاء حتى الآن، وقد جرى إطلاقه في ديسمبر 2021،
وهكذا تمكن، على سبيل المثال، من التقاط صورة لأربع مجرات ملتصقة ببعضها، فضلا عن عدد من الصور الأخرى التي ستساعد العلماء في تحديد هوية الكون الذي يحتوينا وطبيعة نشأته وتاريخه وحجم الانفجار العظيم وتأثيراته،
ومن ثم سيعكف العلماء، بعد هذه الصور، على العمل الدؤوب من أجل رصد أحداث وقعت في الأزمنة الغابرة ربما قبل مليارات السنين، كما سيجتهد العلماء لعلهم يتوصلون إلى الآفاق المتوقعة لتطور هذا الكون الهائل.
في تصريح لافت لبي بي سي، تقول جيليان رايت مديرة مركز تكنولوجيا الفضاء بالمملكة المتحدة:
(إن هذه المعلومات الجديدة مبشرة، وأنها ذات جودة عالية، وأن التليسكوب رصدها في غضون ساعات معدودة، وتقول هذه الحقيقة ببساطة إن ثمة مزيدًا من الاكتشافات تنتظر الإعلان عنها).
لم تكن الصور الملتقطة مؤخرًا هي أول انشغال للإنسان بالكون ونشأته، فهناك علماء آخرون متخصصون بحثوا في هذه المسألة العويصة فكريًا وعلميًا،
أذكر منهم العالم الأمريكي الكندي لورانس كراوس (مولود في 1954)، وهو عالم فلك متخصص في الفيزياء النظرية، وعنده محاضرة مثيرة للعقل بعنوان (كون من لا شيء)،
أثبت فيها بالمعادلات الرياضية والحسابات الفلكية أنه من الممكن أن يظهر الكون من العدم، الأمر الذي قد ينسف المنظومة الدينية المستقرة في وجدان الملايين من آلاف السنين!
إن ما يثير المرء في عالمنا العربي، ويحزنه في الوقت نفسه، هو كيف يعمل الغرب بدأب ومثابرة على فهم المنظومة الكونية التي ندور في فلكها فهمًا صحيحًا يتكئ على أحدث ما توصل إليه العلماء الأفذاذ،
بينما نغرق في مصرنا الحبيبة في مستنقع التفاهات، فمرة نتعارك حول ثياب المرأة، ومرة نتخاصم حول الإعلام ونجومه، ومرة نتقاتل حول حتمية دخول الحمام بالرجل اليمين…
وهكذا، نرى أنفسنا نناقش قضايا متواضعة ناقشها أجداد أجدادنا في أزمنة سحيقة، رغم أن الله، سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير/ سورة العنكبوت الآية 20)،
فهذه إذن دعوة إلهية صريحة للغاية للبحث والتأمل والاكتشاف وإعمال العقل لنعرف كيف خلق الرحمن هذا الكون الفسيح، ولكن معظمنا لا يدركون!
ليس عندي ذرة شك واحدة في أن العقل البشري الجبار الذي تمكن خلال بضعة آلاف من السنين أن يطور نفسه ويرتقي بحياة البشرية، لهو قادر على الإبحار في خضم هذا الكون العجيب ليزيح الستار عن المزيد من أسراره وخباياه،ومن حسن الحظ أننا خلقنا في أزمنة الاختراعات الكبرى، وإن كنت أتمنى أن أعرف كيف سيكون شكل العالم بعد مائة عام، وهي أمنية مستحيلة قد يراها أحفادي!