كنت قاب قوسين أو أدنى من الأمية، حين أحضر أبي فاتورة الكهرباء الأولى في حياته، كان يتأمل في حروفها اللاتينية التي لا يعرف منها سوى شكلها المختلف.
لقد طال مكوث الفاتورة في يده وطال مكوث عينيه في الفاتورة.
كنت اراقبه ببراءة وقد أصابتني عدوى الحيرة التي في عينيه، حين نظر إلي مطولا كأنه ينتظر مني حلا لمشكلة ما.
طوى الفاتورة ووضعها في جيبه للحظات ثم أخرجها مرة أخرى، وتأملها مرة أخرى بالحيرة نفسها، ونظر إلى بالنظرة نفسها، كأنه ينتظر مني فك رموزها.
ولكن هيهات فلم أكن أرتاد كتابا ولا مدرسة، فلم أكن سوى فتاة حدد المجتمع صلاحياتها منذ قرون الجاهلية، فتاة لا تصلح إلا لخدمة الأهل حتى يقرر الأهل مصيرها.
لم أكن أعلم أن مصيري متعلق بفاتورة الكهرباء تلك، كان أبي يقلبها بين يديه لعل وحيا ينزل عليه بالفرنسية.
ولكن الوحي الوحيد الذي كان يحضره كلما تأمل فيها هو وحي أمي أمي التي لا تغار من الجيران إلا حين ترى أولادهم يحملون المحافظ ويتجهون إلى المدرسة.
وكانت لا تكل ولا تمل من تكرار طلبها “سجل بناتك في المدرسة لا تتركهن فريسة الأمية كحالك وحالي، أنظر إلى نفسك لا تستطيع قراءة فاتورة كهرباء، دعهن يدرسن على الأقل تجد من يقرأ لك تلك الفاتورة”.
كنت أراقب أبي في أرقه الذي امتد لأيام، لا يستطيع النوم وهو يصارع في نفسه سلطة المجتمع الذي يرفض تعليم البنات، وسلطة تكاليف الدراسة التي ستخنق جيب موظف يدخر دخله البسيط لبناء بيت يتسع لبناته السبع أو ربما التسع.
لم أكن أدرك أن تلك الفاتورة ستغير حياتي، لقد عاد أبي ذات مساء يحمل محفظتين صغيرتين فيهما أقلام وكراسات وغيرها من الأدوات، ودون تفكير فهمت أن واحدة منهما ستكون لي أنا غمرني شعور رائع خفي لم أبده لأحد، فقد كنت بارعة في إخفاء مشاعري، وما زلت كذلك.
لم أرى محفظة جميلة في حياتي قبل ذلك المساء الجميل، لم تكن فاخرة ولا مزركشة، ولكنها كانت العلامة الأولى لبراءتي أمام قضاء التقاليد والمجتمع. لقد كانت دليلا على حريتي على حقي في تقرير مصيري.
لقد كنت قاب قوسين أو أدنى من الأمية حتى جاءت تلك الفاتورة التي جعلت مني دكتورة.
الجزائر